آلام تعانق السماء وأرواح تحترق

دجوار أحمد آغا

 مئتان وثمانون روحاً، وربما أكثر، حلقت في الثالث عشر من تشرين الثاني 1960 في سماء عامودا، تنظر كيف تلتهم ألسنة النيران، أجساد غضّة طرية تصدر عنها صرخات استغاثة، وآهات وأنّات ألم عميق، جعل تلك الأرواح تمثل حزناً بمشاهدة الصراع المحتد، والمشتد، بين الحياة والموت. من كان يظفر بأمل النجاة من الموت، كان القدر أمام المبنى بالمرصاد، يخطف الأجساد ويرفع الأرواح لتنضم الى مثيلاتها في السماء.

شجاعة رجل أنقذت الكثير من الأرواح

شاهد تلك الأرواح أيضاً، رجل شهم في ريعان الشباب 32 عاماً، بقوامه الممشوق ولهفته الكبيرة كيف يتّجه من المقهى الذي كان فيه، إلى وسط النيران ويضع الأجساد الغضة الصغيرة تحت جناحيه وينقذهم من الموت المحتوم، أكثر من مرة وهو يلقي بنفسه إلى النار حتى أنقذ اثني عشر طفلاً، وعندما خاطبه المجتمعون حول الكارثة بأن أطفاله أصبحوا في أمان وخارج دائرة النيران، رد عليهم دون أن يلتفت “جميعهم أولادنا” وكانت جملته الأخيرة إذ شاهدت الأرواح كيفية سقوط مسند السقف الحديدي بعد انصهاره بفعل ضراوة النار فوق محمد سعيد آغا الدقوري لتصعد روحه الطاهرة وتنضم إلى بقية الأرواح في السماء.

بداية المأساة

عامودا تحترق! نعم احترقت قلوب أمهات عامودا قبل 63 عاما وما تزال بعضهن مسجلات على قيود الحياة، رغم أنهن فقدن الحياة يومها وهنّ يشاهدن فلذات أكبادهن تحترق تحت ألسنة النيران.

كانت حكومة الوحدة التي جرت بين مصر وسوريا من تحكم البلاد برئاسة جمال عبد الناصر، وكان مدير ناحية عامودا “مصطفى شعبان” قد قرر في اجتماع مع مدراء مدرستي (المتنبي والغزالي) الابتدائية أن يدعوا الأطفال لحضور فيلم سينمائي مصري بعنوان (شبح منتصف الليل) في صالة سينما “شهرزاد” ويذهب ريعه لدعم ثورة الجزائر. حتى الفيلم لم يكن يناسب أعمار التلاميذ الصغار.

الإحراق المتعمّد

“سينما شهرزاد” المحرقة لم تكن سوى بناء طيني مستطيل الشكل، سقفها من خشب وقش، وجدرانها مغطاة بأكياس الخش السريعة الاشتعال. رغم أنه تم عرض حفلتين قبلها، ورغم أن السعة الحقيقة للسينما كحد أقصى هي 200 مقعد، لكن مدير الناحية أمر بإحياء حفلة ثالثة، وكلّف وكيله الملازم محمد رمضان السيء الصيت لدى أهالي عامودا للإشراف عليها. حيث تم وضع 500 طفل بالصالة في الساعة الثامنة مساء.

غرفة عرض الأفلام كانت ممتلئة بثلاثمائة فيلم سريع الاشتعال، بالإضافة الى حرارة جهاز العرض الذي تم من خلاله عرض حفلتين سابقتين دون استراحة؛ ما أدى الى اشتعال النيران بالغرفة وانتقاله بشكل سريع إلى السقف والأعمدة الخشبية.

ركض الصغار نحو أبواب السينما في محاولة للهرب من الموت المحتوم، لكن تدافعهم نتيجة ذعرهم وخوفهم والرعب الذي شاهدوه بأعينهم وألسنة اللهب، التي كانت تطاردهم جعلت الأبواب تغلق في وجوههم ويتساقطون الواحد تلو الآخر.

500 طفل محاصر بين ألسنة النار دون وجود معلم ولا مدير بينهم، يا إلهي حتى السماء ليلتها اتشحت بالسواد حزناً على الأجساد الغضة الطرية التي التهمتها النيران.

نتيجة الفاجعة

أكثر من 500 طفل ضحية هذه الفاجعة 283 شهيدا جميلا، و227 مصاباً بحروق مختلفة الدرجات، والبعض أصيب بكسور وإصابات متنوعة. مأساة بكل ما تعينه الكلمة مهما حاولنا أن نخفف من الألم والوجع والحزن الذي خيم على المدينة وأريافها وعلى عموم الشعب الكردي والإنسانية جمعاء، لن نستطيع أن نزيل حسرات قلوب الأمهات والآهات التي أدمت القلوب.

عامودا قدّمت من أجل الجزائر، 283 شهيدا جميلاً بريئاً، لكن تعالوا نتذكر كيف ردّت الجزائر الجميل! قامت بالتوسط بين صدام حسين وشاه إيران لعقد اتفاقية السادس من آذار 1975 فيها وبرعاية رئيسها “هواري بومدين” للقضاء على الثورة الكردية في باشور كردستان. نعم هكذا ردّت الجزائر الجميل لعامودا الكردية حتى النخاع.

“وقيّدت ضد مجهول”

مثلها مثل الكثير من المجازر والإبادات، التي جرت بفعل فاعل ومتعمد بحق شعبنا، ولكن لأن السلطات وبحكم كونها الداعم للفاعل، هذا إن لم تكن هي نفسها الفاعل! تُبقي هذه المجازر دونما متابعة ولا محاسبة لتصبح طيّ الكتمان، ويتم تسجيلها تحت بند “فاعل مجهول”. الأنظمة الحاكمة هي الراعي الأول لهذه الإبادات والمجازر بحق الكرد، لذا لم تُحرك حكومة ما تُسمى بالوحدة ساكناً، ولا تفتح تحقيقاً حول الحريق وأسبابه واكتفت بجعله قضاء وقدر! يا لسخرية القدر!

كم من المجازر التي ارتكبها العدو ضدنا وبقيت دون حساب! مجزرة حاصدة 1926، قصف عامودا بالطائرات والمدفعية الفرنسية سنة 1937 (طوشا عامودي)، سينما عامودا 1960، الإحصاء الجائر 1962 والحزام العربي، الذي تم تنفيذه عام 1974 وهما (الإحصاء والحزام) من نتاج الملازم الفاشي العنصري محمد طلب هلال. حريق سجن الحسكة 1994 والكثير الكثير غيرها من المجازر، التي بقيت دون حساب، “وقُيّدت ضد مجهول”.