سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

المُنتج الفكري بين دُعاة الإسلاموية والقوميّة العربية والطائفية

د. أنمار نزار الدروبي (أستاذ الفكر السياسي)_

الأشياء تتكوّن كما تنمو الأجنة في الأرحام والحوادث ما هي إلا حالة ولادة للمعالم أو الظواهر الجديدة، أما الأسباب فهي النواميس التي تحكم الوجود الطبيعي والحياة بما فيها الحالة الاجتماعية.  يكمن أهم قصور للعقل البشري في إدراك ذاته أولاً ثم فهم الأفكار التي تفوق إمكانية التحايل عليها، تلك الأفكار التي يُعبّر عنها ويفسرها الفلاسفة كما يحلو لهم ضمن أسرار الطبيعة، مع هذا فالبعض يُثبت عجزه فيلجأ لاعتبارات الصدفة أو يخدع عقله وينكر وجود المؤامرة. ولنا أن نشير إلى حالات الدهشة والاستغراب والتعجّب فهذه غالباً ما تنتاب الغافل ومن يَدع حسابات العقل على الغالب ليستقبل الأحداث بروح التسليم للأقدار ومن ثمّ يبني على نتائجها، وهذا هو الفرق بين الأمّي وبين من يقرأ ويكتب وفقاً لأبجدية لغة الفكر السياسي.
بالتالي فإن هندسة الفكرة وتصميمها تخضع لجملة من البديهيات لكي توضع بصيغة عقلانية، وقد تبدو هذه العمليّة أقرب للعبث من ناحية الشكل ويصعب تحديد أبعادها بما يشبه شكل الصخور والحصى في الطبيعة. لكن العقل البشري لديه مقدرة فائقة جداً في توظيف الأفكار وتسخيرها لصالحه، لا سيما أن الفكرة في علم السياسة هي المؤامرة الحقيقية بوجهها الآخر بطريقة أشبه ما تكون بالهضم البيولوجي في معدة العقل البشري وفق اتجاهين هما ضعف وتشويه الأصول الفكرية الصحيحة سواء كان في التخطيط أو التنظير. من هنا يتم تدجين الأفكار وشحنها في مشاريع أيديولوجية على سبيل المثال لا الحصر (خطورة استثمار التراث الفكري الديني وحشره في تيارات جارفة ومُدمّرة للمجتمعات والعقول، بالتحديد نتناول التنظير في إطار ما يسمى الإسلام السياسي، أو فكرة القومية العربية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أو الصراع الطائفي والعرقي، وغيرها).
ولا شك بأن العقل الاستعماري قد درس واقع المنطقة وجمع المعلومات الكافية عنها بما في ذلك الجوانب الاجتماعية والدينية والثقافية. عند هذه المسألة يكمن الخبث الاستعماري، الخبث هو السعي لتشكيل أحزاب دينية طائفية، أو أحزاب على أساس فكرة القومية، مع العلم أن مجتمعاتنا العربية كانت متعايشة ومنسجمة تاريخياً ولا تحتاج إلى هذه التشكيلات الحزبية، في الوقت نفسه أن الانتماء الديني كان لا يتجاوز حدود التشريع المدني وطقوس المناسك والعبادات. لكن الاستعمار أو الغرب أقحم الدين أيديولوجياً بالسياسة، بالتالي سينزع قدسيّة التعايش الاجتماعي فيسحق كل من يعارض أفكاره ومعتقداته الحزبية بفرض قدسيتها الدينية التي لا تقبل الشراكة، وهكذا لدى أنصار القومية العربية، والأحزاب التي تشكّلت على أسس طائفية.  ومن هذه الأفكار تم حشد وتعبئة الشرائح الاجتماعية في أنشطة محددة وإعدادها فكرياً وثقافياً بما ينسجم وتطلعات الاستعمار. في عشرينات القرن الماضي ابتُليت الأمة بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين 1928، فكان ومازال وباء الأفكار الإسلاموية المتطرفة يقطع لحوم البشرية بسبب الإرهاب والعنف التكفيري. ثم جاءت في الخمسينات القومية العربية مع مجيء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وما أدراك ما القومية العربية، وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 دخل العالم العربي في صراع الطائفية، في اليمن، وسوريا، ولبنان.
من هنا فإن المنتج الفكري اليوم مليء بالأساطير والشوائب، هذه الأساطير والشوائب جلست طويلاً في أجهزة المخابرات العالمية وربما لسنوات، لأن صناعة الأفكار والأيديولوجيات حرفة استخبارية تُطبخ على نار هادئة ولو عانت من الفشل مرة أو أكثر فإنها لا تستسلم لليأس حتى وأن جاءت إلينا الأفكار بثوب جديد إلى أن يتم ترتيبها وتنسيقها بما يلائم تفكيك المجتمعات العربية. بالمقابل قد نكون نحن من يُرتب وينفذ هذه الأفكار دون أن ندري، صراعات طائفية، حروب إعلامية، رفض قبول الآخر. ربما ما أكتبه يُمثّل نوعاً من الصداع الممل، لكنها الحقيقة، الحقيقة هي أن المجتمعات العربية تعاني من أعراض الانهيار الأخلاقي والثقافي والتخلّف الفكري، عليه فإننا قد وصلنا إلى مرحلة التحلّل والتفكك الاجتماعي لتستمر رحلة الضياع ونحن في القرن الحادي والعشرين.
من الطبيعي هناك من ينحاز لجذوره الدينية والعرقية، وغيره ينحاز لعروبته، وآخر ينحاز لأيديولوجيته، وأيّاً كان الأمر فهي أمراض لم تُشفَ منها البشرية، فالأفكار والمعتقدات التي يلتزم بها الأفراد والجماعات في مختلف مستوياتهم، سواءً كانوا على مستوى السلطة أو الأشخاص العاديين تنعكس على مسألة العنف السياسي والاجتماعي والفكري، فبسبب خلفيتهم المتعصبة والمتطرفة قد يلجؤون إلى ممارسة العنف، وبهذا الصدد يقول المفكر الفرنسي (روجيه جارودي) في كتابه: “أصول الأصوليات والتعصبات السلفية” إن المتعصبين لمعتقداتهم وأفكارهم اليوم، سواء كانوا التكنوقراطين، أو الستالينين، أو المسيحيين، أو اليهود أو المسلمين، يشكلون جميعاً أكبر المخاطر على المستقبل، وهذا هو التعصب السلفي، وهي عقيدة دينية أو سياسية أو غير ذلك في الشكل والإطار الثقافي أو الذاتي” ص9.
إن تنوّع الفئات السياسية والاجتماعية والدينية في المجتمع، وتحديد سياسة النظام الاجتماعي بحسب ما تراه مناسباً، غالباً ما قد يُقابَل بالرفض من قِبل الفئات الاجتماعية الأخرى. بالتالي فنحن أمام حالة من التمزق والتناحر في هذه المجتمعات، نجدها بوضوح من خلال الانقسامات الداخلية، حيث ينقسم السكان إلى جماعات وطوائفَ مختلفة الانتماءات الفكرية، سواء كانت انتماءات أو ميولاً عرقية أو قومية أو دينية متصارعة فيما بينها بسبب التعصب لمبدأ فكري أو أيديولوجي معين، وما يولّده ذلك حالات من العنف الطائفيّ والفئوية. أما في حالة تدخّل السلطة في الدفاع ودعم فئة على حساب الفئات الأخرى في المجتمع، فإنه قد يؤسس هذا إلى ممارسة العنف بين فئات المجتمع، تخوضها الفئات المقهورة ضد الفئات القاهرة، وبوسائل من العنف والعنف المضاد. فالفئة الأولى تكون مدفوعة بهاجس الانتقام والثأر، والثانية مدفوعة بفعل الدفاع عن امتيازاتها واستفادتها من السلطة. وبهذا سنكون أمام مجتمع فاقد للحس الوطني، وليس لديه رؤية صائبة للواقع بحيث تنعدم فيه روح المبادرة والسعي لإعادة الأواصر بين أبنائه وانتزاع مسوغات العنف، لأنه يريد تحقيق مصالحه الفئوية والقومية والمذهبية والدينية.
وتأسيساً لما تقدّم، إن تصنيف الناس والمجتمعات بِناءً على انتماءات الهوية الدينية أو الاتجاهات القومية، والأيديولوجيات المختلفة، يُمثّل خطراً كبيراً خصوصاً في فهم طبيعة وديناميات العنف والإرهاب في العالم المعاصر، فتقسيم العالم على أساس ديني وقومي وعرقي يؤدي إلى تعقيد العَلاقات الدولية، كما أنه يكون سبباً في التفرقة بين شخص وآخر إلى درجة قد تصل إلى الصدام في أحيانٍ كثيرة.
الجدير بالذكر أن نشوء ما يُعرف بأزمة الهوية التي تُغذي ميول العنف لدى الأفراد من أبناء الجماعات العرقية والدينية والقومية التي تُمنع التعبيرَ عن هويتها الخاصة، الأمر الذي ينشأ عنه انقسام المجتمع بين اتجاهات عديدة، كل منها يتمسك بخصوصيته. بيد أن حالة الصدام بين الهويات، بدلاً من اندماجها الطوعي في هوية واحدة داخل المجتمعات المتعدد الأعراق والمذاهب، ينشأ من محاولة كل مكون من مكونات المجتمع فرضَ إرادته على مؤسسات المجتمع والدولة بمختلف الوسائل، وذلك لأن عدم الإيمان بتعدد الهوية، وعدم الانصهار المجتمعي بين الأفراد، سيُنتج حتماً سياسة الإقصاء والتهميش ضد الآخر، بالتالي سيؤدي إلى تغذية العنف السياسي داخل المجتمع، وفي حالات كثيرة يمكن أن يؤدي شعور التعصب بالانتماء إلى جماعة واحدة إلى تنامي ميول الاختلاف عن الجماعات الأخرى.
من خلال مؤسسات المجتمع تُمرّر الأفكار على الأفراد، فالمنتج الفكري الذي يعيشه الفرد في محيطنا العربي من أهم العوامل لبروز ظاهرة العنف المجتمعي، وإن لتفاقم هذه الظاهرة في المجال العربي هو تعدد التأويلات للدين، حيث تتداخل الأفكار المتطرفة مع الجمود الثقافي للأفكار القومية والجفاف الفكري للعصبية الطائفية. من هذا المنطلق نشأ لدينا منتج فكري وثقافي هش وضعيف.
ومنذ (محمد عبد الوهاب) مُنظر السلفيّة الحديثة  حتى اليوم، مازالت شعوبنا أسيرة في قبضة مخططات السياسة الاستعمارية الخبيثة والأفكار المتطرفة، لا سيما أن عبد الوهاب كان قد اعتبر في وقته، أن كل مَن كان خارج مذهبه كافراً، وأبويه كانا كافرين، إضافة إلى أنه اعتبر باقي العلماء من غير منهجه كفاراً، بيد أنه استباح دماء عموم المسلمين بعد أن قتل رجلاً كان يصلي ويسلم على الرسول الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم، بعد الأذان، وطالب أتباعه بإعادة الحج لأن ما فعلوه قبل الإسلام الجديد على يديه كان باطلاً، وكذلك كَفَّر معظم علماء المسلمين على سبيل المثال لا الحصر، كَفَّر الرازيّ. وكان أبرز ما جاء به محمد عبد الوهاب هو مديحه لِمُشركي قريش حيث يرى أنّ مُشركي قريش خيرٌ من مسلمي اليوم، وأن شرك كفار قريش دون شرك المسلمين اليوم. عليه لم تنتهِ القصة إلا بالقضاء على الأفكار الشاذة، تلك الأفكار التي مزقت مجتمعاتنا في تفاصيل مأساة لا تزال مستمرة وسوف تبقى ما لم يتوقف الإرهاب الفكري العالمي بكل أشكاله وألوانه الذي يرسم البشاعة على جدران السياسة.
في القدس يرقد هيكل سليمان تحت ثرى أطلال التاريخ، وكنيسة القيامة تخفي وجهها خجلاً من بهاء السيدة العذراء. وفي القدس تشمخ قبة الصخرة بصدى تكبير آذان المسجد الأقصى، أما التلال والروابي والسهول فهي تحكي قصص الإنسانية بروعة صهيل خيول أقوام كانوا يتعانقون بالسيوف فيرحل بعضهم ويبقى آخرون.