سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

التنظير الفكري للقائد عبد الله أوجلان في تشكيل هويّة حزب العمال الكردستاني

د. أنمار نزار الدروبي (أستاذ الفكر السياسي)_

أثار تأسيس حزب العمال الكردستاني على يد القائد عبد الله أوجلان وكوكبة من رفاقه العديد من التحولات والتطورات على المستويين الحركي والفكري، من خلال تفكيك تفاعلات (ثنائية الهوية والسياسة) وتأثير الهوية في السياسة وتحديداً مسألة بناء الفرد الكردي المنخرط في حزب العمال الكردستاني، وعلى مدار ما يقارب خمس وأربعين عاماً من تأسيس الحزب، كيف نقرأ اليوم تأثير القائد أوجلان على حزب العمال الكردستاني أمام حالات القمع والقهر على مر العقود، وما هو الإرث الفكري للقائد أوجلان في بناء مسألة هوية الحزب، وهذا ما يمكن أن نعزيه إلى أسباب تتعلق ببنية الحزب نفسها، كونه لم يكن حركة سياسية فقط، وإنما حركة اجتماعية بنت إرثها الفكري على أفكار وتنظير مؤسسها الذي يمتلك نظرة كليّة للعالم في إطار الهوية الكردية، حيث قد برزت هذه المقاربة للقائد أوجلان من خلال إدراكه لظروف الإقصاء التي تعرّض لها الكرد عالمياً في الحقب السياسية المختلفة وتجاوز محاولات الاجتثاث سواء في العراق، تركيا، سوريا، إيران وغيرها.
هنا نحتاج إلى إطلالة بانورامية على أفكار القائد عبد الله أوجلان:
راجعت بدقة أغلب كتب ومؤلفات القائد المثقف عبد الله أوجلان وما يتوفر منها، ولابد من الاعتراف أن هذا النوع من المؤلفات يُغري، فهي تطرح نوعاً من الأفكار ذات تجانس حقيقي مع مجتمعاتنا: وبالمعنى السوسيولوجي الذي طوره عالم الاجتماع الفرنسي (أميل دوركهايم) فإن أفكار القائد أوجلان تستحق الاهتمام ليس في تأسيس حزب العمال الكردستاني فحسب، وإنما دوره في الطبقات المثقفة في مجتمعنا برمته.
يشير أغلب الباحثين والكتّاب إلى أداتية القومية في استقطاب عناصر الحزب وتنشئته: نعم لكنهم يتجاوزون البعد الاجتماعي وانعكاساته على عملية التجنيد والانخراط في صفوف الحزب، وأني مقتنع بأن هناك قدراً مُعيناً من التقصير في فهم البعد الاجتماعي لأفكار القائد أوجلان وهو أمر مألوف بالمعنى السوسيولوجي.
من هذا المنطلق؛ فإن معرض حديثي عن السلوك الاجتماعي وتأثيره في أفكار الحزب لم يأتِ من فراغ بل هو تنظير المؤسس أوجلان وتحديداً في كتابه (التاريخ مخفي في يومنا ونحن مخفيون في بداية التاريخ) والذي اقتبس منه بعض السطور في باب (الحرب والفن) حيث يقول “قبل تأسيس PKK ذاته على هيئة حزب بمدة طويلة، كان قد تم الوصول إلى معرفة المجتمع والعائلة، وبأن هذه الحياة تقبع تحت التهديد الاجتماعي بشكلٍ خاص، وبأنها لم تَدُم وفق ما يُرغب به، بالتالي سيثبت كل ذلك علمياً أيضاً بأن ردود الأفعال تجاه الحياة التي هي محصلة لحرمان الشعب من الهوية، والعبودية الكلاسيكية التي تتحوّل تدريجياً من سيء إلى أسوء، تصل إلى دمار الوطن” ص15
على الرغم من أنني مقتنع بماركسية القائد أوجلان إلا أنني لا أعتقد أن صلتها حالياً بالثورة الروسيّة الكبرى (الثورة البلشيفية) وإنما أفكار القائد هي مجرد صلة انتماء بصرف النظر عن التكرار، وهذا ما أكده في نفس كتابه المذكور آنفاً “إننا نطور الأيديولوجية الثورية سياستها وفكرها التربوي، كذلك استراتيجيتها وتكتيكها وبهذا الخصوص يستمر التطور ويدوم” ص30
وبما أن نظرية البنيوية الاجتماعية تُفسّر وبشكلٍ أكثر دقة التفاعلات التي تحدث داخل نسق الحياة، إذن السلوك الاجتماعي وما يتضمنه من تفاعلات هو الأكثر تأثيراً في عملية تشكيل رؤية الفرد الكردي داخل الحزب لذاته وللعالم من حوله.
وفقاً لما تقدّم، يجب تقديم بناء نظري قائم على مجموعة التفسيرات والتحليلات المرتبطة في تشكيل وسلوك الحزب واستراتيجيته. لاسيما أن هذا البناء النظري يعتمد على تضامن أفراد الحزب كوحدة متماسكة، وهو ما يعكس الإرث الفكري للقائد أوجلان، ذلك الإرث الذي يستند عليه الحزب والذي يتبع نموذج المقاوم والمناضل بمزيج من الثقافة والفكر في كل مناحي الحياة اليومية والذي رسم بهديه طموحات وتطلعات الكرد. بالتالي تبدأ عملية بناء الفرد الكردي، ثم الأسرة الكردية، وصولاً إلى المجتمع الكردي.
العنف كردِّ فعل لسياسة دوليّة غير متوازنة
إن الإرهاب الذي مورس على أفراد الحزب كانت عاملاً أساسيًّا ومركزيًّا سرع في نشوء ردة فعل طبيعية. القوى الاستبدادية لا تؤمن بمفهوم حق تقرير المصير للشعوب والمجتمعات، فهي بدورها فرضت على الشعوب والقوميات ضرورة اعتماد نظامها الاستبدادي لدرجة الإملاء دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية البنية الاقتصاديّة والسياسيّة أو الثقافيّة للمجتمعات المختلفة، بالإضافة إلى أن تلك القوى الاستبدادية لا تمنح الشعوب اختيار حكّامها بكل شفافية وديمقراطية، أو السماح بأنظمة حكم تعارض مسار دكتاتوريها، فهي تعمل جاهدةً من أجل تكريس ديمقراطيات شكلية تحول دون قيام حكومات متطرفة أو متمردة قد يتعذر عليها التحكم في سلوكياتها مستقبلاً. ونتيجةً للممارسات التعسفية وغير العادلة لهذه القوى خلقت أوضاعاً غير متكافئة بين طوائف وقوميات ومذاهب في جميع المجالات التي كانت سبباً كافياً لظهور ردود أفعال عنيفة من طرف طبقة المهمشين بقدر العنف الذي مورِس عليهم، في ظل نظام كان من المفروض أن يُغيّر أوضاعهم نحو الأفضل، لكن كل الشواهد تؤكد أن القومية الكردية بصورة عامة تندرج ضمن قائمة الفئة المهمشة في النظام العالميّ.
 وبينما نلاحظ ارتفاع الخط البيانيّ لمعدلات العنف في ظل النظم الاستبدادية بكل أشكاله، وانتشار فوضى شاملة على جميع المستويات، وإعادة تشكيل خرائط جديدة لا تأخذ بعين الاعتبار الخصائص الماديّة والروحيّة للشعوب، وهو ما جعل المؤرخ البريطانيّ (آرنولد توينبي) يصف العصر الحاليّ بالعصر البربريّ الجديد. لقد أثبتت الإحصائيات الدوليّة أن ظاهرة تهميش القوميات عاملٌ حاسمٌ في الفوضى والأزمات والمشكلات على المستوى العالميّ، وتؤدي إلى تعميق الهوّة بين المجتمع الواحد، والتلاعب بقيم حقوق الإنسان، بالإضافة إلى ظهور تناقضات صارخة في البنية الأساسيّة للدول المتخلّفة.
اختطاف القائد أوجلان سياسة ممنهجة
لسنا بحاجة إلى تأكيد أن القائد أوجلان كقائد بمواصفات معينة، فهو مقلق للنظم الاستبدادية والدكتاتورية، تلك الأنظمة التي تبغض الأحرار أمثال القائد أوجلان. من هنا جاءت مؤامرة اختطاف القائد أوجلان من قبل قوى دوليّة معروفة تعكس بعض الشواهد على فسق وإرهاب وعدوان تلك القوى، وما هم إلا قوى توسعية صفراء تخجل الشعوب الحرة أن تؤمن بهم. فقد حاولت تلك القوى التأثير على الحزب والضغط عليه من خلال تغيير خريطة الفاعل الرئيسي في سياسته، لأن القائد أوجلان يُعدُّ من أكبر التحديات التي تواجه تلك القوى.
ومع أن موازين الدول تثقل بمقدار قوتها العسكريّة والاقتصادية، إلا أن هذا المعيار يبقى معلولاً أمام قوة وإرادة حزب العمال الكردستاني، ولهذا تعرّض الحزب لشتى أنواع العنف السياسي، وما قضية اعتقال مؤسس الحزب القائد أوجلان إلا خير دليل على إجرام أنظمة بعينها.
هنا سنسجّل بأن خطأ الحسابات ستكون كلفته باهظة جداً لجميع الأطراف. على أن هذا الاستبداد والقهر ضد القائد أوجلان وحزبه ليست سابقة، بل تعهدها سياسات الدول منذ خطابات الفوهرر النازي هتلر الذي أنجز حسم كثير من المعارك بإجرامه. ولا ننسى أن هذه التعقيدات إضافة
لملابسات أخرى تخص الوجود الإيراني في سوريا مع حشود الميليشيات التي تعبث في الساحة السوريّة والعراقية وتزعزع استقرار الشرق الأوسط، لا يمكن تجاهل وضعها في معادلة الصراع وتطورات ما يجري أو سينتج عن التصادم المحتمل جداً مع إيران عندما تنهال الصواريخ على المواقع العسكرية في سوريا الذي يشكل التواجد الإيراني حيزاً كبيراٍ فيه.
وبما أن قوانين الأشياء لا تسمح أن تستقر الشواذ والتناقضات في كيان لا ينسجم معها، ولذلك تحدث الحركة بفعل التنافر والتضاد في عملية خلق استقرار أو انسجام فيما نسميه الواقع. الحرب رغم بشاعتها تعتبر من الوسائل التي تنتج الحل؛ عندما تتعقد الإشكالات، وتعجز العقول عن إيجاد صيغة لمعادلة مقبولة، من خلال السياسة وفي خضم التشابك القائم حاليا.
من هنا أقول بيقين رؤيا التحليل التي يفرضها منطق الأحداث، لوضع حل شامل وعادل للقضية السوريّة برعاية دولية بعيداً عن المناورات السياسية. ولن يتغاضى العالم عن التحقيق في موضوع استخدام الأسلحة الكيمياوية ومحاسبة الذين قاموا بهذا العمل الإجرامي ضد الشعب السوري، مع وجود ملفات كثيرة أخرى ترتبط بمجريات الأحداث وتطوراتها.
ما هو الموقف الدولي الرسمي ومنظمات المجتمع المدني اتجاه قضية اعتقال القائد أوجلان والأساليب القهرية الممنهجة ضد حزب العمال الكردستاني:
  1ـ المعايير المزدوجة للدول الغربيّة فيما يخص حقوق الإنسان ومن تجليات تأييد الأنظمة الدكتاتورية في كثرة من البلدان العربيّة والإسلاميّة.
 2ـ ممارسة القوة في العَلاقات الدوليّة واللجوء لسياسة الغزو العسكريّ كما في سوريا، والعراق عام 2003م بحجة الحرب على الإرهاب.
 3ـ تقديم المساعدات بما فيها الدعم العسكريّ للمنظمات المتطرفة، كما حصل مع داعش الإرهابي.
4ـ الاستبداد السياسيّ والظلم الاجتماعيّ الذي تمارسه السلطات في كثير من البلدان العربيّة والإسلاميّة على القوميات والطوائف والشعوب.
وفي النهاية فإن احترام حقوق الإنسان ومسألة تحقيق المصير ليست مجرد كلمات تُلقى، وإنما هي رسالة ذات مضمون فكريّ ودينيّ واجتماعيّ له أثر كبير في توجيه الإنسان.