منذ مفارقة روحنا أجسادنا، والوجوم يعلو وجوهنا والألم غصة في قلوبنا، تئن أرواحنا ألماً حزناً، تطوقنا الذكريات تصلبنا دون رحمة، تعصف بنا لتعيدنا إلى اللحظات التي كنا نشعر حينها بوجودنا، إلى جلساتنا تحت أشجار الزيتون لنحتمي تحت ظلها، لننسى أنفسنا برائحة التراب العذبة، التي تبعث فينا الروح، هناك أينما كنا ندير وجهنا نرى فناً، وجمالاً، وضياءً، لم نكن ندرك وقتها أن هذا الدفء كله، الذي نتنعم به قد يسلب منّا يوماً ما، قد ينزعون هذه السكينة، التي أجزم بأنها لا تكاد تكون موجودة سوى في جنان الرحمن قد يسلخونها عن جلدنا، يبعدونها عن أنظارنا، يغيبوها عن مسامعنا، قد يبيدون مشاعرنا بإبعادنا عن بلادنا رغماً عن أنوفنا.
حولوا تلك البهجة، والسعادة، إلى خدوش، وندبات لا تشفى، لا يُمحى أثرها ما دمنا غائبين عنها، حطموا ما بنته عفرين فينا يوم مغادرتنا لها، لدى وصولنا للخط الفاصل بيننا وبينها “جيايي ليلوني” ألقينا نظرتنا الأخيرة عليها والسلام، لكن هل يسلم من يودع حبيبه؟ هل تبقيه الذكرى حياً؟ هذا الحب المتغلغل في نفسنا، وفي عروقنا كيف يختفيان، ويبادان، ويغيبان، كيف ننسى أجمل لحظات حياتنا وأكثرها واقعية؟ موجات بحيراتها، وصفاء ونقاء أنهارها، وزرقة سمائها، ووديانها وجبالها المنتصبة أشجارها، وهل أشجار الزيتون تُنْسى؟ قد تكون عجائب الدنيا السبع ثمانية بعفرين.
استغربنا حينها من جرأة الشمس في شروقها وغروبها إعلاناً منها عن بدء يومٍ جديد، وهناك من جرّب فزع الفقد يوم أمس، من قضى يومه بالنحيب على مصابه، من احترق كبده، وهو لا يزال بحرقة قلب ينتظر خبراً عن أولادهم المقاتلين المفقودين منذ بداية الحرب اللعينة، فهناك من مزقت الطائرات الحربية جسده أشلاء، ولم يتمكن أحدٌ من معرفة هويته، وهناك من استفاق على صرخات أطفاله، يشق حناجرهم هول أصوات القذائف العشوائية التي تصطاد الأرواح، من قرر الرحيل وكله رغبة بالبقاء لأنه يؤمن بأن الأوطان لا تعود كما هي عندما تسلب، وتُحتل، ستصمته الحروب، ولن يقوى على التفوه بحرف، فعلاً المسألة جارحة وكأن الحياة تسخر من أحزاننا نحن الذين متنا بالأمس، وتمضي الأيام دون أن نعيش.
كان قاسياً رحيلنا عنها، زادنا يأساً تأخرنا بالعودة إليها، تخبطنا، تعثرنا، نجونا من الموت، لكننا ما استطعنا يوماً أن نعيش، كان القدر يرمينا في متاهات الجنون، إنها جغرافية صغيرة لا تتعدى مساحتها 3850 كيلو مترا مربعا، قد يجد صعوبة من يحاول العثور عليها على الخريطة لكن من عاشها، وتوسد على حجارها والتحف بترابها لا يرى لها نداً ولا شبيها، ويؤلمه إلَّا يجدها لو حاول أن يفتش عنها في ملامح مدينة أخرى، نتفق بأنه مرة واحدة فقط.. مرة واحدة يندفع فيها المرء بغزارة، ومن بعدها يصاب بالبرود نحو كل شيء وللأبد، كنّا محملين بحبٍ فيّاض وسيلٍ من المشاعر تجاه مدينتنا الآن نواجه عواصف الشوق، ونهزم بالطبع سنهزم من يقوى على تحدي نقطة ضعفه وقوته، من قادر على النجاة من حبٍ رأى فيه نفسه، معادلة صعبة لا بل مستحيلة، يشبه الأمر أن تخلع لحمك الذي يغطي هيكلك وروحك، الذي يبث فيك الحياة عن نفسك.
هل يتوب العاشق عن حبه مهما أوجعه وخلق لديه أزمة نفسية، قد لا تغادره حتى مماته، هل يستطيع الطفل أن يتخلى عن والدته إن نهرته أو عاقبته، إذا ارتكب خطيئة دون قصدٍ منه وبكل براءة، هل يتجرأ مراهق ما أن يرفع يده على والده إن وبخه؟ إن لم يتب، ويتخلى، ويجرؤ كل هؤلاء على فعل ذلك رغم سهولته، كيف للمرء أن يطفئ بركان الحنين الذي يكنه لوطنه المشتعل داخل صدره والموصد بأضلاعه.
وكما يقول ابن الرومي في أحد أبياته الشعرية معبراً عن تعلقه وتمسكه الشديدين ببلاده: “ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعه.. وألا أرى غيري له الدهر مالكا”، فإننا لن نسمح لمحتلي أرضنا، وأشجارنا، وسمائنا أن يبقوا أبد الدهر، وهم يتنعمون بخيرات وطننا، إن لم يكن بالأمس فربما اليوم، إن لم يكن اليوم لربما غداً، لكن حتماً سيأتي ذلك اليوم حاملاً بحوزته حقيقة تحرير عفرين.
وكما غنى حسن عكاش واصفاً ملاحة تفاصيل عفرين وغضاضتها axa te zêr û cewhere deşt û mirgên te cinetin ava te bak û kewsere her bosit bi nirx û qîmete، فإننا لن نتنازل عما هو لنا، وعمن صنعنا، وبتعب أجدادنا وبالسلاح والقوة سنستردها ” Qurbanbim wê zikê hêja jê mêr û mêrxaz anîne”، أساساً إلى الآن لا نعرف كيف يعيش من لم يرَ الجمال، من لم يرَ عفرين.
ولأنه وكما قال حلاج المنصور في أحد أشعاره داعياً الناس لعقيدته الصوفية “والله ما طلعت شمس ولا غربت، إلا وحبك مقرون بأنفاسي، ولا جلست إلى قومٍ أحدثهم، إلا وأنت حديثي بين جلاسي” أكثر من الحب الذي كنه الحلاج لعقيدته أكنه لوطني عفرين، أحبها فوق الظنون، أحبها أكثر مما ينبغي، و يا لذة شعوري عندما أسقي قحط الغياب برؤيتها وزراعة شتلات الزيتون بجانب ضريح شهدائنا، الذين أعادوا عفرين لنا؛ لأنها لنا، وكل ما سنبذله في سبيل عفرين، لن يكون سراباً لأنها تستحق والحكاية ولن تنتهي….