لكل شعب من شعوب العالم، مبدعوه ومثقفوه ورواد الحركة الوطنية التحررية سواء السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية. والشعب الكردي مثله مثل بقية شعوب العالم يفتخر برواده، الذين لولاهم لما بقي شيء اسمه الكرد ولا وطن يُدعى كردستان. المؤرخون الكرد كتبوا تاريخهم وحافظوا عليه من الضياع والتحريف، والأدباء الكرد تغنوا بجمال وطنهم ودعوا الشباب الكرد عبر قصصهم وأشعارهم الحماسية إلى الدفاع عن وطنهم والتمسك به.
من منّا لا يفتخر ويرفع رأسه عالياً عندما يتم ذكر (شرف خان البدليسي، وأحمدي خاني، وملايّ جزيري، وفقيّ تيران، ومحمد أمين زكي، ومدحت مقداد بدرخان، وجلادت بدرخان وكاميران بدرخان، وممدوح سليم بك، وموسى عنتر، و د. عبد الرحمن قاسملو، وجكرخوين، وشيركو بيكس، ودلدار مؤلف وملحن النشيد القومي الكردي 1938 وحسين برزنجي،) وغيرهم من عظماء الكرد الذين حافظوا على الهوية والوجود الكردي. مقالنا اليوم عن أحد هؤلاء العظماء والذي لم يبخل على وطنه، وشعبه بشيء وقدّم بهما الكثير رغم سنوات عمره القليلة، إنه رائد السينما الكردية وأسطورتها الراحل الكبير يلماز كوناي.
القضية الكردية
“القضية الكردية قضية في غاية الصعوبة والتعقيد. ذات يوم سأحقق فيلماً أحكي فيه حقاً حكاية نضال شعب من أجل ولادته أو بعثه. أما اليوم فالأمر عسير كما أن القضية نفسها عسيرة. ومع هذا على المرء أن يحكي، ذات يوم، كيف تم تشتيت الشعب الكردي وتقسيمه، وما هي الآفاق المستقبلية المطروحة أمامه. على أي حال اعتقد أن من الأمور الشديدة الصعوبة الحديث عن مثل هذا بموضوعية. فالتاريخ ليس حافلاً بالانتصارات فقط، بل هو حافل، كذلك، بالهزائم والأخطاء وخيبات الأمل”.
هذا ما كتبه الراحل الكبير يلماز كوناي عن قضية شعبه ووطنه المقسّم بين عدة دول بحيث أصبحت كردستان مستعمرة دولية على حد وصف البروفيسور التركي الكبير إسماعيل بيشكجي.
مع القضاء على ثورة ديرسم 1937، ظن الأتراك أنهم قضوا على الشعب الكردي، وأنه لن تقم لهم قائمة بعدها وسوف يتم تتريكهم وصهرهم في بوتقة التركية. لكن الشعب الكردي الحي الذي لا يموت، استطاع الحفاظ على وجوده وبقائه رغم سياسات الصهر والإبادة العرقية والثقافية التي كانت وما تزال تمارسها الحكومات التركية المتعاقبة. يشار كمال، أحمد كايا، موسى عنتر، يلماز كوناي خير دليل على ذلك.
الولادة والبدايات
ولد يلماز حميد أوغلو بوتون، في الأول من نيسان 1937في قرية “ينيجة” التابعة لمحافظة أضنة في باكور كردستان، والده حميد كان يعمل عند أحد الإقطاعيين في مزرعته، عمل كوناي مع والده في جني الفواكه وسقاية وقطف القطن، وهو ما يزال طفلاً لم يتجاوز الخامسة من عمره. تعرضّت حياته لهزّة قوية من الأعماق مع زواج والده الزوجة الثانية وهو ما يزال في السابعة من عمره. درس الصفوف الثلاثة الأولى من الابتدائية في القرية ومن ثم أكمل دراسة الابتدائية والإعدادية في أضنة، بعدها سجل في جامعة إسطنبول في كلية الاقتصاد، حيث أصدر مع زملائه مجلتين هما “بوران” و”دورورك” سنة 1958، كما ساهم في تحرير مجلة الحائط الجامعية. لكنه لم يكمل الدراسة.
عمل يلماز كوناي في أكثر من مهنة لكسب قوته، ربما أبرزها بائع متجول، والتي يذكرها في روايته الرائعة (صالبا) التي كتبها في السجن عام 1973، كتب العديد من القصص عن معاناة البسطاء الكادحين خاصة بعد قدومه الى إسطنبول وتبلور ميوله ومواقفه الثورية، (ماتوا ورؤوسهم محنية) من أشهر رواياته وترجمت الى العديد من اللغات، وقد سُجن بسبب إحدى قصصه (الأعناق الملوية) 18 شهراً سنة 1961 بتهمة “المثقف الأحمر” بالإضافة الى نفيه لمدة ستة أشهر الى “قونية” في وسط الأناضول.
التحول إلى السينما
أول مشاركة فعليه له في السينما كانت عمله كمساعد مخرج، وكاتب سيناريو وممثل، مع المخرج عاطف يلماز في فيلم (أبناء هذا الوطن) سنة 1958. أما أولى تجاربه في الإخراج، فكانت في فيلم (سيد خان) سنة 1968 الذي نجح بشكل كبير وحصل على العديد من الجوائز في مختلف المجالات (التمثيل، الإخراج، السيناريو،) بلغ عدد مشاهدي الفيلم خلال فترة عرضه رقماً قياسياً ثمانية ملايين مشاهد.
أصبح كوناي البطل الأكثر طلباً من جانب المخرجين والمنتجين، خاصة بعد أن أصبح محبوب الجماهير بأدواره الجميلة، حيث مثل أكثر من 100 فيلم أشهرها (ملك الملوك، القاتل، النعجة السوداء، النهر الأحمر، الملك البشع، عشرة رجال لا يخافون، فرس امرأة وقطعة سلاح).
التوجه إلى السينما الواقعية
دائماً كان السجن رفيق درب كوناي، فقد قضى فترات متعددة من حياته في السجن بسبب مواقفه الجريئة ورفضه للظلم الذي يتعرض له البسطاء والكادحون وخاصة أبناء شعبه الكردي. اتجه كوناي الى الأفلام الجادة وغير الجارية حيث بدأ منذ العام 1966 بتحول كبير في مسيرته السينمائية فأرسى مدرسة جديدة للسينما وهي المدرسة الواقعية التي أخذت بعداً محلياً وعالمياً.
شرع بإخراج فيلم (سيدخان) وبعده الذئاب الجائعة، ثم رجل قبيح، فأفضل أفلامه خلال تلك المرحلة وهو فيلم “الأمل” الذي نال الكثير من الجوائز بلغت 17 جائزة ووصل به الى المهرجانات العالمية. حينها قال كوناي: “أنا لا أصنع سينما بل أكتفي ببيان الحياة الواقعية.. لا بد من إظهار الاستغلال الذي تتعرض له طبقتي ولصالح من؟”
أخرج العديد من الأفلام الجادّة منها: الأب، غداً هو اليوم الأخير، الآلام المرثية ليدخل بعدها الى السجن، لكنه لم يتوقف عن العمل، حيث أخرج فيلم القطيع الذي تحدث فيه بشكل واضح وصريح عن الشعب الكردي ورسم مأساة هذا الشعب من حلال شخصية البطلة “بيريفان”.
“الطريق” والخروج إلى الحرية
خلف قضبان السجن، وعبر الزيارات المتكررة من جانب صديقه “شريف غورين” وبقية فريق التصوير، أبدع يلماز كوناي في إخراج فيلم سوف يُعرض في مهرجان كان السينمائي الدولي سنة 1982 وسوف يحصل على جائزة السعفة الذهبية مناصفة مع المخرج اليوناني كوستا غافراس عن فيلمه المفقود.
السيناريو والإخراج ليلماز كوناي، 114 دقيقة فيلم يحكي قصة خمسة سجناء يتم إعطاؤهم إجازة بمناسبة انقلاب 12 أيلول لمدة أسبوع، لكنهم يخرجون من سجن صغير في جزيرة إيمرالي إلى سجن كبير الذي هو تركيا وباكور كردستان المحتلة من جانب تركيا، حيث الجندرمة وقوات الجيش، التي جعلت الحياة صعبة للغاية إلى جانب الطبيعة القاسية حيث الثلوج التي تغطي مناطق شاسعة من باكور كردستان على مد النظر.
الهروب الأخير
خلال صعود الطغمة العسكرية الفاشية في 12 أيلول 1980 إلى سدة الحكم، أصبح في حكم المؤكّد، خطورة البقاء في تركيا حتى ولو كنت معتقلاً وفي السجن. لذا قرر كوناي الهروب حيث كان يقضي عقوبة بالسجن لمدة 19 عاماً وكان على علم بأنه هناك مخططات للقضاء عليه، استغل الإجازة التي يتم إعطاؤها بمناسبة عيد الأضحى سنة 1981 وهرب عبر البحر إلى اليونان وقد كانت شهرته قد سبقته إليها، فقامت وزيرة الثقافة اليونانية وقتها (ميلينا ميركوري) باستقباله بحفاوة بالغة، ثم توجه إلى سويسرا التي رفضت قبول طلب اللجوء، الذي تقدّم به، فتوجه منها إلى فرنسا التي رحبت به. لم تطل إقامته في فرنسا فسنوات عمره القليلة كانت تقترب من نهايتها، خاصة بعد تشخيص مرضه الذي كان عضالاً (السرطان). وفي يوم التاسع من أيلول 1984 وعن عمر لم يتجاوز 47 عاماً وفي قمة عطائه، توقف القلب الكبير عن الخفقان في مشفى في باريس. حيث دفن في مقبرة العظماء (بيير لاشيز) إلى جانب عظماء الثورة الفرنسية.