د. أنمار نزار الدروبي (أستاذ الفكر السياسي)
بلا شك الصراع يولّد العنف، والعنف ليس ظاهرة جديدة خاصةً في العالم المعاصر، بل هو ظاهرة قديمة قِدم العالم الذي نعيش فيه، لذلك ترى حضور العنف في كثير من الخرافات والأساطير القديمة. بيد أن هذه ظاهرة تمسنا في حياتنا اليوميّة، لهذا نجد العالم بأسره مُحاطاً واقعيًّا بظاهرة العنف بل غارق فيها، لقد تمكن العنف من أن يفرض نفسه موضوعيًّا في الخطاب اليوميّ لعصرنا الراهن، وانتشر في كل مظاهر حياتنا، وعلى مستويات عدة، حيث أصاب العَلاقات الدوليّة بعلاقات عنيفة وعدوانية تتجسد في شكل حروب وحشية متواصلة وقاسية، تحولت في أحيانٍ كثيرة إلى حرب عصابات لا تُبقى ولا تذر، يمارس فيها الإرهاب السياسيّ والاضطهاد الأيديولوجيّ، وإن تاريخ البشريّة من القديم إلى عصر فولتير وما بعده لم ينجح في تجاوز ظاهرة العنف، وإنما حاول إخفاءها.
لقد أكد كثير من الباحثين قِدم ظاهرة العنف نتيجة للصراع، بالرغم من اختلاف أشكاله وتنوُّع تجلياته في المجتمعات، وكان لفلاسفة العقد الاجتماعيّ وخاصةً هوبز رأي في موضوع الصراع والعنف، فيرى هوبز أن حالة الطبيعة هي حالة صراع وحرب الكل ضد الكل، وجعل من العنف عنصراً أساسيًّا في النظريّة السياسيّة، وفي سياق نقده لنظرية العقد الاجتماعيّ يرى (هيوم) أن القوة والحرب هي ممارسة منظمة للعنف الجماعيّ، وهي السبب في قيام الحكومات والدول، وإن المنتصرين والغزاة هم الذين تمكنوا في لحظات تاريخيّة مُعينة من إخضاع مجموعات بشرية لسلطتهم، وكوّنوا حكومات، وأقاموا دولاً، ذلك هو الواقع الذي تثبته الحقائق التاريخيّة، أما هيجل فقد أخذ العنف لديه شكله الأقصى، فأعطى الحرب قيمة أخلاقية وروحية، والحرب، من وجهة نظره، هي التجرِبة التي يستطيع فيها الإنسان تجاوز طبيعته الحيوانية ونفيها من خلال مجابهة الموت. وبهذا كان رأي هيجل أنه يجب أن تبسط الدولة قوتها وسلطتها المُطلقة، وما يخرج عن سلطة الدولة فيمكن وصفه بأنه عنف مضاد غير شرعيّ.
أما كارل ماركس؛ فإنه يرى أن الصراع هو محرك التاريخ، وأن تاريخ البشريّة لا يخلو من العنف، فلا وجود لمرحلة تاريخيّة من تاريخ المجتمعات البشريّة بدون عنف، بيد أن هذا العنف قد تولّد أساساً من الصراع بين الطبقات، أي بين مَن يملكون وسائل الإنتاج والخيرات وبين من لا يملكونها، فالطبقات المُضطهدة تدافع عن حقوقها، والطبقات الحاكمة تحاول أن تحافظ على سيطرتها واستغلالها، ولهذا فقد كانوا في حالة تعارض ومواجهة دائمة، فنشأت بينهم حروب وصراعات مباشرة وغير مباشرة أدت إلى نتائجَ سلبية على الطرفين معاً. وهكذا فإن ماركس يرى أن التعدد الأساسيّ للعنف في التاريخ البشريّ هو الصراع بين الطبقات.
يوضح ماركس أن تجارِب الثورات البرجوازية التي قامت في القرنين السابعَ عشرَ والثامنَ عشرَ. واعتبر أن الانتقال من الرأسماليّة إلى الاشتراكيّة يتم عن طريق ثورة عنيفة من خلال تناحر علاقات الإنتاج، وإن أية ولادة لمجتمع جديد لا بد أن يسبقها العنف، لكنه شبّه العنف بالآلام التي تسبق المخاض دون أن تكون الولادة ناتجةً عنها، وأن الصراع هو إفراز تاريخيّ ينتج عن تعارض المصالح بعد ظهور الملكية الفردية التي تقود دوماً إلى انفجار العنف.
كما يربط إنجلز في كتابه دور العنف في التاريخ بين الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج وظهور الأسرة والسلطة والعنف. فالعنف في رأي إنجلز، هو الشر المطلق، بل هو مرثاة عن الإفساد المُخجل لكل القوانين الطبيعيّة والاجتماعيّة من قِبل هذه القوة الشيطانية التي هي العنف إذ يلعب العنف دوراً ثوريًّا في التاريخ. وهنا يوضح إنجلز أن ماركس اعتبر العنف مولدة كل مجتمع قديم، أو الأداة التي تشق بمساعدتها الحركة الاجتماعيّة طريقها لتحطم الأشكال السياسيّة الميتة المتحجرة، وهو الصفة المميزة لجماع التطور البشريّ. لقد استشهد إنجلز في قضية العنف السياسيّ بالصراع الذي استغلّه لويس بونابرت في فرنسا.
أما ماو تسي تونغ؛ فإنه يرى أن العنف الثوريّ له دورٌ أساسيٌّ في السياسة، وأن التطرف لا ينبع إلا من فوهة بندقية، بمعنى أن العنف هو القوة المحركة للسياسة، بينما تقع الأشكال الأخرى من العمل السياسيّ السلميّ أسيرة التفاصيل، وهذا لا يعني أن السياسة من منتجات العنف، وإنما هي استمرارٌ للعنف، ولكن بوسائل أخرى. وفي العالم الإسلاميّ يُعدُّ الصراع الذي ولد عنه العنف والإرهاب من الظواهر المعروفة منذ قرون طويلة، فقد كانت حوادث الاغتيالات التي وقعت في بعض العواصم العربيّة والإسلاميّة خلال الخلافة الراشدية، وكذلك في القرن الهجريّ الأول في زمن الأُمويين والعباسيّين، تُجسِّد المعنى الحقيقيّ لهذه الظاهرة حينها. ولطالما كان لاغتيال بعضٍ من الخلفاء الراشدين (عمر بن الخطاب، عليّ بن أبي طالب) دلالاتٌ مستخلصة على منهج العنف آنذاك، بالإضافة إلى ما شهدته حِقبة الخلافة الأُموية من حوادث اغتيالات سياسيّة حدثت بين السلطة والمعارضة، استهلتها السلطة بقتل مالك الأشتر، أما المعارضة فقد انفرد فيها الخوارج وجمهور الفقهاء في ذلك الوقت، وقد سلكت جميع أطرافها العمل المسلح إذ تخصص الخوارج دون غيرهم بأسلوب قريب من حرب العصابات، واتّباعهم تكتيك الاغتيالات، وفي العصر العباسيّ كان للعنف حضورٌ متميزٌ إذ شهد هذا العصر حوادث اغتيالات على نطاق أوسعَ من ذي قبلُ، وقعت بين السلطة والمعارضة.