لا يمكن فصل الزيارة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسيّ عن السياق العام للأحداث في منطقة الشرق الأوسط، والتي يتصدّر المشهد فيها استمرار الأزمة السوريّة والتحوّل التركيّ باتجاه التصالح مع دمشق واستمرار الحرب في غزة إضافة إلى دوافع القاهرة وأنقرة بالانتقال إلى مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية، إلا أنّ الزيارة تكتسب أهمية خاصة إذا وُضعت في إطار التوقيت السوريّ، وأعلن السيسي تأييده المسار التصالحيّ فهل تُعيد القاهرة دورها السابق الذي أسهم في عقد اتفاق أضنة 1998؟
زيارة السيسي بعد قطيعة
الزيارة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسيّ إلى أنقرة الأربعاء 4/9/2024 جاءت في سياق مصالحة ومتغيرات إقليميّة، ورداً على زيارة قام بها أردوغان إلى القاهرة في 14 شباط الماضي بعد سنوات من القطيعة والتدخّل التركيّ في الشؤون المصريّة ودعم وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة، واتهم أردوغان الرئيس السيسي بالانقلاب على الرئيس الإخواني محمد مرسي في 30/6/2013، كما اتهمه باغتيال مرسي.
فيما يتصل بالأزمة السوريّة أعرب الرئيس المصريّ، عبد الفتاح السيسي، عن ترحيبه بمساعي التقارب بين تركيا وحكومة دمشق، وأشار إلى أنّه ناقش الأوضاع في سوريا مع الرئيس التركيّ أردوغان.
جاء ذلك خلال مؤتمر صحفيّ مع أردوغان وقال السيسي: “ناقشنا الأوضاع في سوريا، وأكدنا تطلعنا لحل تلك الأزمة التي أثرت سلباً على الشعب السوريّ الشقيق بشكلٍ غير مسبوق”. وأضاف السيسي: “أُرحِّب بمساعي التقارب بين تركيا والحكومة السوريّة، حيث نهدف في النهاية إلى تحقيق الحل السياسيّ ورفع المعاناة عن الشعب السوريّ وفقاً لقرارات مجلس الأمن في هذا الشأن، مع الحفاظ على وحدة الدولة السوريّة وسيادتها وسلامة أراضيها والقضاء على الإرهابِ”.
نشر كاتب صحيفة حريات التركية، عبد القادر سلفي، 5/9/2024 مقالاً حول زيارة الرئيس المصري، وذكر سلفي في مقاله أنه لا يوجد صديق أبدي أو عدو أبدي في السياسة الخارجية مفيداً أن أبرز ما يميز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أنه يجيد القتال وقت القتال ولا يتردد في الصلح وقت التصالح.
وأوضح سلفي أن أردوغان يتخذ الموقف الصحيح بالتوقيت الصحيح والمكان الصحيح وأضاف سلفي أن أردوغان طور آلية التطبيع مع الدول التي تشهد علاقاتها مع تركيا خلافات مشيراً إلى تحقيق تركيا نتائج إيجابية في العلاقات مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وأن دور سوريا هو التالي.
التوقيت السوري للزيارة
ولكن زيارة السيسي إلى أنقرة بحسب التوقيت السوريّ تأتي بالتزامن مع مسعى تصالحيّ بين أنقرة ودمشق برعاية ودعم موسكو، بعد سنوات طويلة من التدخّل التركيّ في سوريا واحتلال مناطق فيها.
قالت صحيفة الوطن المقرّبة من حكومة دمشق، يوم الثلاثاء 3/9/2024، إنّ زخم التصريحات الروسيّة والتركيّة الرسميّة لم تهدأ في مسعى لتمهيد الأجواء السياسيّة والإعلاميّة أمام أيّ تقدّم قد يُحرز على طريق “التقارب” بين دمشق وأنقرة.
ونقلت الصحيفة عن مصدر دبلوماسي عربي لم تُسمِه توقعه أن تكون موسكو أنجزت بالفعل تحديد جدول أعمال اللقاء المرتقب والمتوقع أن يكون نهاية هذا الشهر.
ولخص المصدر أجندة جدول الأعمال بأنها تتضمن بالضرورة الإشارة إلى تسمية من هم الإرهابيون، وتحديد آلية للتعاون بين دمشق وأنقرة لمكافحة الإرهاب، إضافةً لتحديد جدول زمني لانسحاب الجيش التركي المحتل من الأراضي السوريّة، وذلك بعد إنجاز النقاط السابقة الخاصة بمكافحة الإرهاب لضمان أمن الحدود المشتركة.
ولفت المصدر إلى أنّ إعادة البحث في تعديل اتفاقية أضنة والتي سبق وجرى طرحها كصيغة جديدة للتعاون السوريّ – التركيّ المشترك لضبط أمن الحدود، قد تكون أيضاً على جدول أعمال المباحثات المرتقبة.
وكشفت التصريحات الأخيرة الصادرة عن وزير الخارجية الروسيّ سيرغي لافروف وتحدث فيها صراحةً عن الإعداد للقاء روسيّ – تركيّ- سوريّ- إيرانيّ مُرتقب، عن تحركات جدية في هذا الإطار قد تكون وصلت فيها الجهود الروسيّة إلى تحديد بعض نقاط التقارب بين الجانبين السوريّ والتركيّ.
وأكّد وزير الخارجية الروسي في حديث لقناة «روسيا اليوم» السبت أنّه من الضروري التحضير الآن لاجتماع جديد روسي – سوري- تركي- إيراني، وقال: إنه على ثقة من أن هذا الاجتماع سيعقد في مستقبل قريب جداً، مؤكداً اهتمام بلاده بتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة.
وكشف لافروف وللمرة الأولى، عن موافقة تركيا للانسحاب من الأراضي السوريّة، ولم يخفِ لافروف الإشادة بموقف أنقرة مشيراً إلى أنّ الأتراك مستعدون لتلبية مطلب الانسحاب من سوريا إلا أنّه لم يتم الاتفاق على معايير محددة حتى الآن، كما أنّه تجنب ذكر اسم الإدارة الذاتيّة وذكر الكرد بالاسم في تماهٍ مع الموقف التركيّ. وقال وزير الدفاع التركي يشار غولر في مقابلة مع صحيفة حرييت: “لا توجد مشكلة لا يمكن حلها بين البلدين، وبعد حلّ هذه المشكلات، أعتقد بأننا سنكون قادرين على مواصلة أنشطتنا الطبيعية كدولتين متجاورتين”. واعتبر غولر أنّه “سيكون من مصلحة البلدين إنهاء بيئة الصراع هذه بأسرع وقت ممكن وعودة البلدين إلى أنشطتهما الطبيعية في العلاقات”.
وفي سياق متصل أبدى رئيس البرلمان التركي نعمان كورتولموش الخميس الماضي استعداده للقاء رئيس مجلس الشعب السوريّ معتبراً أن الشعبين السوريّ والتركيّ ليس بينهما أي عِداء.
بالمجمل أيّ مسعى لإعادة صياغة اتفاق أضنة الأمنيّ الموقع في 20 تشرين الأول 1998، يعني التغاضي عن عمليات الغزو التركيّ للأراضي السوريّة وانتهاك السيادة الوطنيّة وإسقاط توصيف الاحتلال عن الوجود التركيّ في سوريا. وهو ما تسعى إليه موسكو عبر طرح المسار التصالحيّ ورعايته، وينسجم ذلك مع مسار أستانة الذي انطلق في 23/1/2017.
دور مصر في اتفاق أضنة
هذه البيئة تُذكّر بزيارة الرئيس المصري حسني مبارك إلى أنقرة في 6/10/1998، بعدما صعّدت تركيا عسكرياً ضد سوريا وحشدت قوات كبيرة على الحدود في تشرين الأول 1998، ودقت طبول الحرب.
لعب مبارك دور الوساطة بين أنقرة ودمشق، وكان قد زار مبارك حينها الرياض ودمشق، كما تدخلت السعودية على خط الوساطة وكذلك طهران، وأفضت الوساطة العربيّة والإقليميّة إلى اتفاقية أضنة في 20/10/1998. العناوين التي تطرحها أنقرة في هذه المرحلة هي ذاتها التي طرحتها عام 1998، واليوم يتم الحديث عن إعادة صياغة اتفاق أضنة، لتكون النتيجة إسقاط توصيف الاحتلال عن الوجود التركيّ في سوريا، وتضيع دماء آلاف السوريين التي قتلتهم أنقرة في سوريا سواءً مباشرة بقصف قواتها المدفعيّ أو الجويّ أو عبر دعم مجموعات متحالفة معها.
خلال مرحلة الخلاف المصريّ ــ التركيّ كان الصوت المصريّ هو الأعلى عربيّاً في المطالبة بانسحاب جيش الاحتلال التركيّ من سوريا والتأكيد على الحلّ السياسيّ وهو الدور الذي يليق بمصر وثقلها العربيّ، ومن المستبعد أنّ تؤثر سلة الاتفاقات الثنائيّة التي وقِّعت خلال زيارة السيسي إلى أنقرة على جوهر الموقف المصريّ، ولكن قد يُخفِض صوتها، وهذا ما يجب على القاهرة أن توضِحه في قادم الأيام.
دور مصريّ مُغاير
لعبت مصر سابقاً دوراً مغايراً في توتر العلاقة بين تركيا وسوريا، وتجاوزت دور الوساطة لتقف مباشرةً إلى جانب سوريا وتؤكد ذلك بالدعم العسكريّ المباشر. وكان ذلك في حقبة تصاعد المخاوف من المد الشيوعيّ في الشرق الأوسط، فعقدت اتفاق حلف بغداد بين تركيا والعراق في 24/2/1955، ونص الميثاق ينصُّ على التعاون في مجالات الأمن والدفاع. وانضمت إليه بريطانيا وباكستان وإيران، فيما أخفقت مساعي ضم سوريا ومصر.
بدأ التوتر بين تركيا وسوريا في 18/8/1957، عندما قامت الحكومة السوريّة برئاسة شكري القوتلي بتغييرات في المؤسسة العسكريّة استفزازية بتعيين العقيد عفيف البزري رئيساً لأركان الجيش، والذي قيل عنه أنّه محسوب على الشيوعية، إضافةً إلى إقالة عددٍ من الضباط، وأثيرت الشكوك بالسيطرة الشيوعيّة على دمشق، ما دفع العراق ولبنان والدول المجاورة للنظر في دعم تدخّل عسكريّ عربيّ أو غربيّ للإطاحة بالحكومة السوريّة. تصاعدت الخلافات الحدوديّة بين تركيا وسوريا فيما كان المتغير المصريّ بعد ثورة الضباط الأحرار في 23/7/1952، وانفتاح مصر أيضاً على موسكو، واستشعر الغرب هذا المتغير فأسند الدور إلى أنقرة للضغط على سوريا، وألقى عدنان مندريس خطاباً تحريضيّاً ضد سوريا في اجتماع حلف شمال الأطلسي “الناتو”، الذي عُقد في إسطنبول زعم فيه أن سوريا ستصبح قاعدة سوفيتية، وانطلقت القوات التركية بدعم أمريكيّ للتمركز على الحدود السوريّة لإسقاط النظام السوري واحتلال دمشق.
حينها حذّر الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف واشنطن من مجاراة تركيا في استفزازاتها لسوريا، وبلغ الحكومة في دمشق معلومات أكيدة بأن تركيا عززت قواتها على الحدود السوريّة للقيام بهجوم سريع خاطف على سوريا وقدّرت القوات بخمسين ألف جندي وخمسمائة دبابة ومدافع سريعة الطلقات وطائرات.
لجأت دمشق إلى القاهرة لحمايتها من الغزو التركيّ المحتمل وزار وفد عسكري سوريّ القاهرة والتقى الرئيس جمال عبد الناصر، وفي 13/10/1957 نزلت قوات مصريّة في ميناء اللاذقية في تأكيد عمليّ لدعم مصر لسوريا في مواجهة التهديد التركيّ. واجتمع رئيسا البلدين وأركان حكومتيهما وأصدروا بياناً في 22/2/1958 أعلنوا فيه الوحدة بين مصر وسوريا باسم “الجمهورية العربيّة المتحدة”، على أن يكون النظام رئاسيّاً ديمقراطيّاً، ولم يستمر مندريس بالحكم إذ أطيح به في انقلاب 1960.
من المستبعد أن يكون دور مصر اليوم مشابهاً لما قام به جمال عبد الناصر في خمسينات القرن الماضي، فالبيئة العربيّة والإقليميّة والدولية شهدت تغييرات كبيرة، ولا أن يصل إلى حجم الدور الذي لعبه حسني مبارك من حيث الحسميّة والثقل، في منع الحرب، لأنّ الحرب وقعت فعليّاً، وما يتم العمل هو إنتاج أضنة جديد من أجل لملمة نتائج الحرب فتذهب عوائدها لصالحِ طرفٍ معين بما يتوافق مع متغيراتِ المرحلة الحالية، ومواقف الحكومات، ولكن ليس لصالح شعوب المنطقة.
مخاوف اليونان
لطالما لعبت أنقرة دوراً سلبياً واستفزازياً ضد الدول المتشاطئة على البحر المتوسط فعقدت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة فايز السراج الإخوانيّة في 27/11/2019، ورفضت اليونان الاتفاق ووصفته بأنه أمر مناف للعقل من الناحية الجغرافية لأنه يتجاهل وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين التركي والليبي. واستدعت الخارجية اليونانية السفير التركي لديها، وأدانت الاتفاق مشيرة إلى أنه لا يمكن أن ينتهك سيادة دولة ثالثة، وأن “هذا الإجراء انتهاك واضح لقانون البحار الدولي ولا يتماشى مع مبدأ حسن الجوار الذي يحكم بين الدول”.
تابعت وسائل الإعلام اليونانية بقلق زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى تركيا، ونقل التلفزيون الرسميّ خبر لقاء أردوغان والسيسي ووصفته بعبارات دبلوماسيةّ بأنّه “لقاء تاريخي”.
وذكر موقع NEWS 24/7 الإخباري أن لقاء أردوغان والسيسي أثار حالة من القلق في أثينا. وأفاد الموقع الإخباري أنه يتوجب على اليونان العمل على إفساد التقارب التركي المصري.
ولعل أبرز تعليق على الزيارة كان من صحيفة Pentapostagma التي اختارت من عبارة” هل سيخون السيسي اليونان” عنوان لمقالها التحليلي حول الزيارة. وذكرت الصحيفة أن تركيا ومصر بدأتا تعاوناً عسكريّاً كبيراً.
وتطرقت قناة Sky إلى التعاون المتزايد بين البلدين مشيرة إلى توقيع البلدين اتفاقيات تعاون في 17 مجالا. وأوضحت القناة أن السيسي وأردوغان تجمعهما جبهة مشتركة ضد اسرائيل.
هذا وأشارت صحيفة Ethnos إلى إصرار كل من تركيا ومصر على البروز كعنصر مركزي في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط.
وشددت صحيفة كاثيميريني اليونانية بأن البعد الأكثر أهمية للتقارب بين مصر وتركيا هو البعد الاقتصادي قائلة: “ربما يكون التفاهم الناشئ بين مصر وتركيا في ليبيا هو التطور الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لأثينا، حيث يبدو أن أنقرة والقاهرة، اللتين كانتا حتى وقت قريب في معسكرات متعارضة تماماً، تحاولان فتح قنوات اتصال وتفاهم”.