على مدى قرون كان السلاطين والأمراء ورجال الدين والعلماء والنخب والعامة يدفنون في مجموعتين من المقابر على أطراف العاصمة المصرية، وهو ما أدى إلى تشكيل ما يمكن تسميته “مدينة تاريخية للموتى” في القاهرة، عرفت باسم “صحراء المماليك” أو “القرافة”.
ويقول الكاتب لي كيث – في تقرير نشرته وكالة “أسوشيتد برس”- إن الحملة التي تقوم بها الحكومة المصرية حالياً لإعادة تهيئة القاهرة تتضمن شق طرق سريعة عبر هاتين المقبرتين، وهو ما يثير قلق المهتمين بالمحافظة على المعالم التاريخية والتراث الجنائزي المصري.
ويضيف الكاتب أن المقبرة الشمالية شهدت خلال الأسبوع الماضي دخول الجرافات من أجل تدمير جدران المقابر، بهدف فسح المجال لإقامة طريق سريعة. وتعود تلك المقابر لبداية القرن 20، ومن بينها بعض الأضرحة التي تعود لكُتَّاب وسياسيين معروفين.
مقبرة السلطان
كما أن مقبرة مزخرفة مقببة وفخمة عمرها 500 عام تعود للسلطان المملوكي قانصوه الغوري، توجد في طريق هذه الأشغال التي تقوم بها الحكومة، ورغم أنها لم تتعرض للضرر فإنها ستكون في المستقبل محاطة بشبكة من الطرق السيارة.
ويشير التقرير إلى أن المقبرة الجنوبية أيضاً شهدت جرف المئات من المقابر، وإقامة جسر علوي، يوجد في ظلاله ضريح ومسجد واحد من أشهر علماء الإسلام في مصر، وهو الإمام الليث بن سعد، الذي يعود إلى القرن الثامن الميلادي.
ويقول الكاتب إنه أثناء عمل هذه الجرافات، سارعت بعض العائلات لنقل رفاة أحبتهم وأقاربهم، في حين واجه آخرون مشكلة فقدان مساكنهم، باعتبار أن هذه المقابر – التي تعرف بكونها مدينة الأموات – هي في الواقع حياة لمجتمعات تنبض بالحياة، حيث يعيش الناس بين الجدران التي تحيط بكل مقبرة.
وأكدت إدارة العاصمة، القاهرة، والمجلس الأعلى للآثار أنه لا توجد أي مواقع تاريخية مسجلة تعرضت للضرر خلال هذه الأشغال، وأكد الأمين العام للمجلس مصطفى وزيري أن كل المقابر المتضررة ترجع إلى الفترة بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، وهي تعود إلى أفراد سيتم تعويضهم عليها.
ضيق أفق!
ورغم أن المقابر الحديثة (نسبياً) أيضاً تمثل مكوناً تراثياً مهماً للعاصمة المصرية؛ فإن خبراء الآثار يؤكدون أن هذا الرأي يعبر عن ضيق أفق؛ كما أن المقابر التي تم تدميرها توجد من بينها الكثير من المواقع التي تحمل قيمة معمارية أو تاريخية، وتمثل التراث الجنائزي للمدينة العريقة، كما أن الطرق السريعة ستدمر النسيج الحضري الذي ظل قائماً لعدة قرون، وهذه المقابر تتواجد ضمن المنطقة التاريخية المصنفة لدى اليونسكو على قائمة التراث العالمي.
وينقل التقرير عن المهندسة المعمارية والناشطة المحافظة على الآثار مي الإبراشي تأكيدها أن هذه الأشغال تتعارض مع هوية المكان؛ باعتبار أن المقابر تمثل جزءاً أساسياً من تاريخ القاهرة منذ تأسيسها.
ويشير الكاتب إلى أن الحكومة المصرية تقوم بحملة كبيرة لبناء الجسور والطرق السريعة في القاهرة وحولها، وتقول السلطات إن ذلك ضروري لتخفيف الازدحام المروري في العاصمة التي يعيش فيها 20 مليون ساكن، وتحسين الربط بين مختلف مناطق البلاد، من خلال مشاريع تندرج ضمن الرؤية القومية لمصر الجديدة.
ولكن هذه الرؤية – حسب الكاتب – تقتصر على فكرة تعزيز الضواحي الراقية؛ إذ إن الجسور والطرق السريعة تربط بين مجموعة من الضواحي الموجودة في محيط القاهرة، والتي تعيش فيها مجتمعات مغلقة من الأثرياء، إلى جانب العاصمة الجديدة التي يتم بناؤها في الصحراء.
طمس التراث
ويقول منتقدو هذه الرؤية أن أعمال البناء في بعض الأحيان لا تأخذ بعين الاعتبار أحياء القاهرة التي تمر عبرها. وفي بعض الحالات فإن الحدائق والمساحات الخضراء يتم طمسها من أجل بناء الجسور. حتى أن أحد هذه الجسور العلوية بُنيَ بنفس عرض الطريق الموجودة تحته، فأصبح سكان العمارات المحاذية له بإمكانهم – حرفياً – الخروج من الشبابيك ليجدوا أنفسهم فوق الطريق السريعة.
ويحذر خبراء الآثار من أن هذه الأعمال التي تشهدها مقابر القاهرة تمثل ضربة للجهود الرامية للحفاظ على الهوية التاريخية للعاصمة، حيث إنها تضم آثاراً تعود إلى العصر المسيحي الروماني، والعديد من السلالات المسلمة التي حكمت البلاد حتى العصر الحديث.
وينقل التقرير عن مؤرخة الفن والمتخصصة في حفظ وإدارة التراث دينا باخوم، قولها “إن هذه المقابر تعتبر مدينة الأموات، ولكنها في الواقع تراث حي. واستمراريتها مهمة جداً؛ إذ إن النسيج الحضري الموجود فيها ظل قائماً لوقت طويل، وهو يلعب دوراً مهماً في العاصمة، ويمثل نمط الحياة القديم الذي نقرأ حوله في نصوص القرون الوسطى”.
ويشير الكاتب إلى أنه على مر التاريخ عاش الناس في المقابر، وإلى حد اليوم يأتي المصريون إلى هذه الأماكن للجلوس قرب أحبتهم الراحلين، كما كان السلاطين في السابق ينظمون مواكب فخمة في المقبرة الشمالية، وفي فترة تفشي الأوبئة كان سكان القاهرة يقيمون الصلوات الجماعية هنالك لطلب الرحمة.
ونقل التقرير عن إحدى ساكنات المقبرة الشمالية، وهي امرأة في الستينيات من عمرها طلبت عدم كشف اسمها، وتعيش في ضريح يعود إلى أحد رؤساء الوزراء من بدايات القرن العشرين؛ قولها “لقد عشت هنا لمدة 41 عاماً، وتزوجت في هذا المكان. نحن لدينا ارتباط تاريخي كبير بهذا المكان، وهؤلاء الناس لا يحترمون الأموات أو الأحياء”.