No Result
View All Result
المشاهدات 1
سليم نصار ـ صحيفة الحياة –
صدر الشهر الماضي في الولايات المتحدة كتاب مميز يحمل العنوان الآتي: «عدّاء الطائرة الورقية» وقد ألفه الكاتب الكردي خالد حسيني الذي يروي فيه مأساة والد غرق به المركب الذي ينقله من تركيا مع أفراد عائلته. وبعد بحث طويل وجد جثة ابنه الصغير (3 سنوات) مطمورة على الشاطئ وقد غطتها الرمال الحارقة، ولما انتشل الوالد المفجوع جثة ابنه «آلان الكردي»، من الرمال التقط لهما أحد الناجين صوة فريدة تصدرت كل صحف العالم، وقد كتب تحتها: السوريون يهربون من موت البر إلى موت البحر، ويروي المؤلف خالد انفعالاته المؤثرة وهو يتصور أن الطفل الغريق هو ابنه، وأن مرتزقة (داعش) دفعته إلى الهرب من سورية عام 2015. على الطرف الآخر من مملكة «داعش» المزعومة أي العراق أصدرت ناديا مراد كتابين روت فيهما مأساة حياتها، تحت عنوانين: «عذراء شنكال» و«الفتاة الأخيرة»، وبما أن ناديا مراد كانت تمثل النموذج الحيّ لمعاناة آلاف المختطفات من إيزيديات شنكال لدى داعش، فقد اختارت أن تدوّن قصة عذابها في كتابين مميزين، وقد روت فيهما وعورة دربها، وكيف تعرضت مع رفيقاتها للأسر والاغتصاب والبيع في سوق النخاسة، تماماً مثلما كانت تُباع الجواري في سوق الرقيق. السبب الذي دفع المرتزقة إلى تعذيب الأسيرة ناديا ورفيقاتها لم يكن مرتبطاً بموقف سياسي أو عقائدي قدر ارتباطه بديانتها الإيزيدية، والملفت أن حكاية تكوين هذه الطائفة أو هذا المذهب، قد تعرضت لاجتهادات مختلفة كان أبرزها القول إنها انحراف عن الدين الإسلامي أو انشقاق عنه، من هنا، كتب المؤرخون أن تصرفات الإسلاميين نحو هذه الطائفة اضطرتها إلى التقوقع في شنكال والشيخان بغرض ممارسة طقوسها التي تؤمن بها في معبد «لالش» الذي يقع في أحد أودية الشيخان.
وبسبب معتقدهم هذا، تعرض الإيزيديون لمجازر متواصلة بدأت في زمن السلطنة العثمانية، واستؤنفت في عهد أبو بكر البغدادي، وكانت التهمة التي تلاحقهم دائماً مرتبطة بمعابدهم المخفية، وبالإشاعات التي تقول إنهم يعبدون إبليس وعزز هذه الفكرة في مطلع السبعينات كتاب طريف «اكزوست» نشره شاب فلسطيني من عائلة بلاطة، كان موظفاً في السفارة الامريكية ببيروت. وخلاصة تلك القصة التي تحولت إلى فيلم، أن إبليس في الشمال الغربي من العراق دخل في روح صبية كانت تصرخ في شكل جنوني، وتتقيأ شيئاً أخضر اللون، وشكت عائلتها لأحد الرهبان الذي استخدم التعاويذ للتخلص من إبليس الذي يسكنها، وقد نجح، والقصة في رمزيتها تشير إلى تغلب روح المسيحي المؤمن بالله على تلك الروح التي تقطن في شنكال وجرود الشيخان. واعتبرت المجلات التي تُعنى بصناعة السينما أن فيلم «المسكون» نال جوائز عدة بسبب الرعب الذي يبثه في جمهور المشاهدين، أو بسبب تأثير الاضطراب النفسي الذي يتعرض له البعض الآخر، وفي الخامس من هذا الشهر، أعلنت بيريت اندرسن، الناطقة باسم لجنة نوبل للسلام، أن الجائزة لعام 2018 كانت من نصيب الشابة ناديا مراد (23 سنة) والدكتور الكونغولي دينيس ماكفيجا، وذلك تقديراً لجهودهما في مكافحة العنف ضد النساء.
ومع أن العراق يبعد آلاف الأميال من الكونغو، إلا أن تكامل المهمتين الإنسانيتين جعل الأكاديمية السويدية تمنح الجائزة مناصفة بينهما، علماً أن الاثنين فازا معاً بجائزة «ساخاروف» التي يقدمها البرلمان الأوروبي تقديراً للمدافعين عن حقوق الإنسان. ويُستدَل من مراجعة طريق الجلجلة التي اجتازتها ناديا بصبر أنها تملك رغبة صادقة في الدفاع عن المظلومات، ولا فرق إذا انتمين إلى الطائفة الإيزيدية أم إلى أي طائفة أخرى، وأثبتت قدرتها على تحمل الآلام، والترفّع عن الأحقاد والضغائن. إنها نموذج لكل النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب والعنف الجنسي وشتى أنواع الظلم والجور. وفي ضوء هذه الصفات الفريدة التي تتمتع بها ناديا مراد، خرجت لجنة جائزة نوبل عن قواعدها الملزمة لكي تختار شخصية عام 2018 فتاة مغمورة من طائفة مهمّشة في العراق. سئلت ناديا بعد صدور كتابيها عمّا إذا كانت قد أغفلت عن عمد بعض الحقائق المؤلمة، فأجابت تقول: “لم يكن من السهل عليّ أن أروي ما حصل لي على أيدي مسلحي «داعش.» تماماً كما ليس سهلاً على نساء الشرق الأوسط الاعتراف بأنهن كن جواري اغتصبن من قبل المرتزقة وارتكبت بحقهم شتى أنواع الممارسات اللاانسانية”.
من المؤكد أن معاناة ناديا مراد كانت أكبر بكثير من الجرح النازف الذي تركته الممارسات البشعة التي مورست عليها، ذلك أن إرهابيي داعش اقتحموا المنزل وقتلوا أمام عينيها ستة من أشقائها، وبما أنها لم تذكر في كتابها الطريقة التي تحررت فيها من الأسر، فقد برز فجأة على هامش هذه المأساة شاب عراقي يدعى عمر عبد الجبار، ليقول أنه هو الذي أنقذها ووفر لها الحماية. وتحدث إلى وسائل الإعلام ليؤكد أن ناديا تسللت إلى منزله، وطالبته بإيوائها وعدم إبلاغ «داعش» عن مكان وجودها، ونظراً إلى وجود منزله في موقع يعجّ بالمسلحين، نقلها إلى منزل شقيقته، حيث حظيت بمعاملة حسنة، قبل تهريبها إلى كركوك. وفي حديث مع (بي بي سي)، وصفت ناديا صورة سريعة للظلم الذي لقيته على أيدي مسلحي «داعش»، قالت: «إن المرأة تحت حكمهم تتعرض للسبي، وسرعان ما تتحول إلى غنيمة حرب، وفي حال حاولت الفرار فإن القصاص ينتهي بها إلى السجن الانفرادي، وبعد ذلك يغتصبها الرجال الموجودون في المبنى، وأنا كنت عرضة للاغتصاب الجماعي». وأضافت: «لقد نقلوني إلى مناطق مختلفة، وباعني مسلحو داعش لأشخاص كُثر، لكنني في النهاية تمكنت من الهرب”، وفي كتابها «عذراء شنكال»، تروي ناديا مراد فصولاً عن المعاناة النفسية التي عاشتها مع وحوش بشرية يندر أن التاريخ يأتي بأمثالهم، كل هذا لأن أبو بكر البغدادي أباح لأنصاره كل ما لا يُستباح بهدف تخويف الأعداء من سطوته وظلمه. والدليل على ذلك أنه حوّل بإرشاداته الصلفة خريج الجامعات البريطانية محمد أموزاي، المعروف بالسفاح جون، إلى شخص بربري، يجزّ أعناق الأبرياء أمام شاشة التلفزيون، ويلعب برؤوسهم مثلما كان يلعب «الفوتبول» في ملعب «نورث كنزينغتون» بلندن. وبسبب هذه الأساليب الوحشية التي أنست العالم مجازر «الخمير الحمر»، تضافرت الجهود للقضاء على هذه الظاهرة الإرهابية! ويرى المحللون أن التراجع الذي شهده «داعش» في السنة الثانية من حكمه مرده إلى انتهاج تنظيم عابر للحدود، بحيث نقل إرهابه من الشرق الأوسط إلى أوروبا.
وتعترف ناديا مراد بالدور الإيجابي الذي لعبته لمصلحتها في الأمم المتحدة (أمل علم الدين كلوني)، خصوصاً أن أمل عُرفت بنشاطها العالمي في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، لذلك، شجعت ناديا على عقد مؤتمر صحفي في قاعة الجمعية العامة، بينما هي ألقت خطاباً طالبت فيه الحكومة العراقية بضرورة محاكمة «الداعشيين» ممن اقترفوا جرائم بشعة ضد أقليات مسالمة. ونقلت عنها وكالات الأنباء دعوتها إلى أهمية محاكمة المتطرفين، كونها وكيلة الدفاع عن النساء الإيزيديات اللواتي تمكنَّ من الفرار من تحت سلطة داعش، وعلق سفير العراق على دعوة كلوني بأنها صعبة التحقيق باعتبار أن المحاكم في بغداد ترزح تحت أعباء خمسمئة دعوى في شأن جرائم ارتكبها «داعش». وقال إن الدولة تستعد خلال المرحلة المقبلة لإجراء مصالحة عامة تشمل المكونات الدينية والإثنية، إضافة إلى الأقليات التي يتألف منها النسيج الوطني العراقي، وفي الصيف الماضي تزوجت ناديا مراد بشاب ينتمي إلى عشيرتها يدعى عابد شمدين. وقد أقيمت حفلة الزواج المتواضعة في حضور شقيقتها التي سبقتها إلى بلدة «توتغاد» الألمانية، وقد بكت كثيراً في تلك المناسبة، لأن والديها وأشقاءها الستة قُتِلوا على أيدي وحوش داعش. وربما وجدت العزاء في زوج يتكلم لغتها ويؤمن بمعتقدها ويفهم كل كلمة كتبتها في سيرتها الذاتية، تشير التقديرات إلى أن عدد الإيزيديين في العالم لا يزيد على نصف مليون نسمة، يقيم غالبيتهم شمال وشرقي الموصل في العراق وشمال سورية، وهم يعتبرون أنفسهم طائفة موجودة منذ الأزل من نسل آدم، والإيزيدية ليست ديانة تبشيرية، لذلك لا يقبل شيوخها أن ينضم إليها جدد لأن التقاليد تقضي بأن يكون مولوداً من أبوين إيزيديين، ولدى هذه الطائفة أماكنها المقدسة مثل مزار شرف الدين في جبل شنكال، ومعبد «لالش» في شمال غربي الموصل، وهو المعبد الذي يحجون إليه. وهم يتكلمون اللغة الكردية باللهجة الكرمانجية، ويمارسون تنظيماً دينياً وإدارياً وراثياً، ويملكون كتاباً مقدساً يسمى الكتاب الأسود، ويرى المؤرخون أن هذه الديانة أصيلة في الشرق الأوسط، لكن المعلومات عنها نادرة بسبب مخاوفهم من حملات الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها على مرِّ العصور. وكان آخرها على أيدي جماعة «داعش» التي ما زالت تحتجز الكثير من نسائهم وأطفالهم على شكل عبيد وجوار، ولقد عاشت ناديا مراد قسطاً من حياتها تحت وطأة هذا الكابوس المزعج، لكنها نجت بمساعدة أحد الأصدقاء على التحرر منه، والانتقال إلى ألمانيا لتولد من جديد. الأمم المتحدة عينت ناديا سفيرة النوايا الحسنة لمكافحة المخدرات والجريمة والدفاع عن حقوق المرأة، وقد فرحت كثيراً عندما استضافتها في الأيام الماضية في الشارقة مؤسسة القلب الكبير التي يرعاها الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، كما فرحت بعبارة التقدير التي انطلقت في العراق ضمن حملة على الشبكات الاجتماعية، وعنوانها: «شَكُو بيها» أي ماذا فيها، وهي عبارة يطالب مطلقوها بوضع صورتي المهندسة المعمارية العالمية زها حديد والناشطة الاجتماعية ناديا مراد على أوراق النقد الرسمي، وهذا يعني، في نظر المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أن المحارة التي تعرضت قشرتها لجرح عميق أحدثته رمال الأمواج العاتية في حرب العراق، قد ولدت لؤلؤة نادرة اسمها ناديا مراد.
No Result
View All Result