أكد الكاتب والأكاديمي السوري الدكتور مهيب صالحة أن اقتصاد مناطق الإدارة الذاتية لا يخضع مباشرة لسيطرة الحكومة السورية؛ فإنه لن يخضع للعقوبات “قانون قيصر”، وأشار إلى أنّ أي انهيار اقتصادي بسبب العقوبات ستكون هذه المناطق جزءاً منه أو ستتأثر به، وشدد على ضرورة إطلاق الحوار بين كل من الإدارة الذاتية والحكومة السورية؛ من أجل إيجاد تسوية مقبولة من الطرفين، تضع مُقدرات المنطقة الاقتصادية في خدمة مشروع وطني إنقاذي يستفيد منه السوريون.
جاء ذلك في حوارٍ أجراه آدار برس مع الكاتب والأكاديمي السوري الدكتور مهيب صالحة، هذا نصه:
ـ أقرَّ مجلس النواب الأمريكي في كانون الثاني عام 2019، بالإجماع “قانون حماية المدنيين” أو ما يُعرف بقانون “سيزر”؛ كيف تقرؤون هذا القانون؟ ما الجهات التي سوف تطالها هذه العقوبات؟
تزامن تدهور الوضع الاقتصادي غير المسبوق خلال الأشهر القليلة الماضية مع صدور ما يسمى بقانون سيزر (قيصر) الذي تفرض من خلاله الولايات المتحدة الأمريكية على الحكومة السورية وعلى مسؤولين ورجال أعمال سوريين، والدول والشركات التي تتعامل معهم، عقوبات اقتصادية من طرف واحد.
على البلدان المانحة الرئيسة والتي من المرجح أن تخرج أيضاً من حرب الكورونا منهكة اقتصادياً، وتحتاج لمزيد من الوقت والموارد لمداواة جراحها، تستخدم بعض الدول العقوبات الاقتصادية كإحدى أدوات سياستها الخارجية، وعادة ما تُفرض هذه العقوبات من قبل دولة كبيرة ضد دولة صغيرة، أو دولة قوية ضد دولة ضعيفة أو من قبل مجموعة دول كالاتحاد الأوروبي أو مجلس الأمن الدولي، وغالباً ما يتم استخدامها كتدبير قسري لتحقيق أهداف سياسية معينة تتعلق بالتجارة أو حقوق الإنسان أو السلم العالمي أو تغيير سلوك سياسي تجاه قضية ما، ومع ذلك فإن فعالية العقوبات الاقتصادية دائماً مثار جدل لا ينتهي، ويمكن أن يكون لها عواقب غير مقصودة، وتؤثر العقوبات الاقتصادية سلباً على اقتصاد الدول المعاقَبة، ويتفاوت تأثيرها حسب طبيعتها وحجمها، ولكنها لا تنجح في تغيير أنظمة سياسية أو حكومات طالما يمكنها مواجهتها بسياسة اقتصادية تقوم على الاكتفاء الذاتي، أو بخرقها بوسائل مختلفة، ونجاح هذه السياسة يتوقف كما تتوقف فعالية الإجراءات العقابية على درجة ارتباط الاقتصاد المعاقب بالسوق العالمية وحجم مشاركته الدولية.
ـ قال مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأمريكية في تصريح صحفي إن عقوبات قيصر لا تشمل المناطق غير الخاضعة لسيطرة حكومة دمشق، ولن تتأثر هذه المناطق بتلك العقوبات؛ ما تعليقكم على ذلك؟
كل العقوبات التي فرضت على سوريا كانت أحادية الجانب، ولم تصدر عن مجلس الأمن أو منظمة الأمم المتحدة، وبالتالي؛ فإن تكييفها القانوني قسرية وأحادية الجانب، وهذا ينطبق على قانون سيزر، الذي تضمن عقوبات اقتصادية على كل شخص أجنبي (طبيعي أو اعتباري) يوفر عن علم، دعماً مالياً أو مادياً أو تقنياً كبيراً، أو يشارك عن قصد في صفقة كبيرة مع الحكومة السورية أو شخصية سياسية بارزة فيها.
وتشمل العقوبات مصرف سوريا المركزي، وتجميد الأصول المالية، وكل من يزود الخطوط الجوية السورية بقطع غيار وصيانة، قد يبدو القانون في ظاهره أداة ضغط على الحكومة السورية وحلفائها من أجل قبول انتقال سياسي سلس بموجب القرارات الدولية. لكنه؛ في حقيقته وسيلة ضغط أمريكية هدفها تغيير سلوك النظام تجاه المسألة السورية وتجاه المصالح الأمريكية واستراتيجياتها في منطقة الشرق الأوسط. ومن الواضح أن هذه العقوبات ستكون قاسية جداً على الشعب السوري في الداخل وحلفاء النظام إيران وروسيا، إذ يقوض نفوذ إيران في سوريا ويحول دون تحقيق أطماعها التوسعية في المنطقة، ويحد من قدرة روسيا على المناورة ويدفعها نحو تنفيذ القرارات الأممية التي ساهمت بإعدادها وصادقت عليها وخاصة القرار ٢٢٥٤، أما الحكومة السورية التي يفترض أن القانون يستهدفها؛ فإنها تستطيع الالتفاف على العقوبات والتحايل عليها كونها تمتلك شبكة علاقات دولية نسجتها طيلة العقود الماضية وقادرة على استثمارها في مواجهة العقوبات.
ـ من المقرر أن يدخل القانون حيز التنفيذ في حزيران المقبل وفق ما أعلن المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري، مطلع أيار الحالي، برأيكم هل ستؤثر هذه العقوبات على مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا؟
لم يشر قانون سيزر صراحة على وضع المناطق خارج سيطرة حكومة دمشق، لكنه يشير لعقوبات اقتصادية على الحكومة السورية، وطالما اقتصاد هذه المناطق لا يخضع مباشرة لسيطرة الحكومة؛ فإنه لن يخضع للعقوبات الإدارة الذاتية؛ لأن مناطق شمال وشرق سوريا لا تستطيع الخروج من العباءة الوطنية الاقتصادية من حيث تداخل الحركة الاقتصادية، وأي انهيار اقتصادي بسبب العقوبات؛ ستكون هذه المناطق جزءاً منه، أو ستتأثر به، وتعتبر منطقة شمال شرق سوريا مهمة جداً للسياسة الأمريكية كونها تستحوذ على ٧٠% من مصادر النفط والغاز، وهذا القطاع الاقتصادي هو الوحيد الذي يشير إليه قانون سيزر صراحة نظراً لأهميته الاستراتيجية سواء في اللعبة السياسية بين الدول الفاعلة والمتدخلة في المسألة السورية، أو بين الأطراف السورية، أو في استخدامه ورقة في التسوية السياسية ومرحلة إعادة الإعمار القادمة.
ـ برأيكم؛ ما الحلول الاقتصادية التي ينبغي أن تتّبعها كل من حكومة دمشق ومناطق الإدارة الذاتية لمواجهة أزمة الدولار؟
إن تدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية بمعدلات غير مسبوقة خاصة خلال الأشهر الماضية بسبب قيام البنك المركزي بالمضاربة على الدولار، والتوقف عن تأمين حاجة السوق المحلية من العملات الأجنبية، واعتماد الحكومة سياسة تعدد أسعار الصرف للاستفادة من فروقات الأسعار بزيادة احتياطيات البنك المركزي من القطع الأجنبي لمواجهة تداعيات قانون سيزر ومرحلة التسويات.
حجم ودائع السوريين بالدولار في المصارف اللبنانية التي تجاوز خمسين مليار دولار، علاوة عن أموال السوريين في الخارج التي تتجاوز مائة مليار على أقل تقدير، ولو كانت هذه الأموال أو نصفها مودعة في الجهاز المصرفي السوري؛ لحافظت على ثقة المتعاملين بهذا الجهاز، وساندت سعر صرف الليرة، وسهلت العمليات التجارية والمالية الدولية رغماً عن قانون سيزر أو أية عقوبات اقتصادية أخرى، لكن سياسة الحكومات التي تعاقبت على سوريا منذ ستينات القرن الماضي كانت تضع الحكومة السورية في مآزق سياسية تولد عقوبات اقتصادية عليها.
لقد ترافق التحول من سياسة سعر الصرف المدار بالتدخل المباشر من قبل مصرف سوريا المركزي بسوق الصرف إلى سياسة تعويم سعر الصرف مع بدء المصارف اللبنانية في تقييد بيع الدولار في شهر آب ٢٠١٩ ومنع المودعين من سحب مدخراتهم بتلك العملة؛ مما أدى إلى بداية انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، وفقدان الليرة السورية توازنها بنهاية تموز ٢٠١٩، حيث تجاوز سعر صرف الليرة السورية في السوق السوداء حائط ٦٠٠ ليرة / للدولار ثم استمرت سلسلة الانهيارات بتجاوز حائط ألف ليرة بنهاية كانون الثاني ٢٠٢٠ وحائط ١٦٠٠ ليرة في شهر أيار من العام نفسه. وهذا التدهور بسعر صرف الليرة مصحوب بارتفاع أسعار السلع والخدمات بمستويات غير مسبوقة تهدد معيشة ٨٠ % من السكان في الداخل بالانهيار السريع والمميت قبل دخول قانون سيزر حيز التنفيذ، ويؤدي انخفاض القوة الشرائية في لبنان بسبب تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية إلى تهريب السلع السورية المحلية إلى لبنان فتزداد أسعار هذه السلع في السوق المحلية بسبب نقص الكميات المعروضة.
ولمواجهة تدهور سعر صرف الليرة وبالتزامن العقوبات الاقتصادية في قانون سيزر، على حكومة دمشق والإدارة الذاتية قبل كل شيء، إطلاق الحوار بينهما، تمهيداً لحوار وطني؛ من أجل إيجاد تسوية مقبولة من الطرفين، تضع مُقدّرات المنطقة الاقتصادية في خدمة مشروع وطني إنقاذي.
ـ ما الإجراءات الإسعافية لوقف تدهور سعر صرف الليرة في هذه الأوقات؟
ـ تحرير الاقتصاد الوطني من قيود السياسة وطفيلياتها العالقة به واعتماد المعايير الاقتصادية العلمية في إدارته.
ـ تقوية الطلب الفعال (القوة الشرائية) للفقراء، وتوجيه كامل الدعم لهذه الفئة الواسعة التي تجاوزت نسبتها ٨٠% من السكان في الداخل.
ـ سحب كتلة نقدية من التداول بزيادة الفائدة على الودائع وزيادة الاحتياطي القانوني وفرض ضريبة على الثروة وترشيد الإنفاق العام.
ـ حصر التمويل بالقطع الأجنبي للمستوردات من السلع الاستهلاكية والإنتاجية الضرورية وفرض ضريبة عالية على السلع الكمالية.
ـ تقديم تسهيلات ائتمانية وجمركية وضريبية وتسويقية للمشاريع الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة والاستراتيجي.
ـ تخلي البنك المركزي عن سياسة المضاربة بالدولار وشفطه من السوق للاستفادة من فروق تعدد سعر الصرف، وعودته لسياسة التدخل المباشر وغير المباشر في سوق الصرف.
ـ قبول الودائع بأنواعها ومنح الائتمان لأغراض إنتاجية بالعملات الأجنبية وبفوائد مغرية.
ـ إلغاء عقود استثمار القطاعات المنتجة للدخل مع القطاع الخاص، وتحويلها إلى هيئات استثمار عامة تخضع لرقابة ومحاسبة حكومية صارمة.
ـ فرض ضريبة تصاعدية على الثروات الكبيرة التي تتجاوز عشرة ملايين ليرة في السنة، تبدأ بمعدل ٥% وتصل إلى ٢٠% والعمل على تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وتخصيص عوائدها لدعم الليرة السورية.
ـ طرح سندات وأذونات خزينة بالليرات السورية وبالدولار مدتها من سنة وحتى عشرين سنة بمعدلات فائدة متزايدة حسب طول مدة الاستحقاق ومكفولة بضمانات عقارية من أملاك الدولة، وطرح سندات مؤبدة إلزامية للذين أثروا في السنوات السابقة على حساب الشعب السوري بسبب حظوة أو فساد.
ـ الرقابة الحكومية على أسواق السلع من حيث الكميات والنوعيات والأسعار، والتشدد بمحاسبة المخالفات التموينية.
وهذه الخطوات التنفيذية، برأيي، كفيلة بزيادة الاحتياطي من العملات الصعبة، وتحسين الثقة بالجهاز المصرفي، وزيادة الاستثمارات الإنتاجية، وتحسين الكفاءة الاقتصادية والفنية، ومع تحسين أداء الحكومة الاقتصادي والمالي والإداري بزيادة جرعات محاربة الفساد الإداري والمالي في أداء مؤسسات الدولة، واعتبار الشفافية أساس عملها الذي على أساسه تتم محاسبتها، تستطيع الحكومة وضع حد لتدهور الليرة السورية، ومواجهة العقوبات والتصدي لتداعياتها الاقتصادية.