سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

مهارات التأليف.. أكثر من نصيحة جاهزة

مدحت صفوت

أن تصبح شاعراً ليست مهمة بسيطة، ولا تقلّ تعقيداً عنها مهمة أن تصير روائياً، فالعملية الإبداعية مركّبة، وتحتاج إلى دربة السنوات، وخبرة تتراكم مع الوقت، إنها أشبه بالتدريب على رقص الباليه، الذي يحتاج إلى تدريبات مكثفة، ومتواصلة.

وفي إطار البحث عن ماهية المبدع، وجوهر الإبداع، ثمة نقاشات عدة، حول إمكانية تدريس وتعليم الإبداع، الذي من الضروري ألا ننظر إليه باعتباره موهبة فنية، أو خيالاً جامحاً فحسب، بل لأنه مهارات ابتكارية وحلّ للمشكلات. «فنحن جميعاً مبدعون بالفطرة، ومثل كل مهارة أخرى، يتمتع بعض الأشخاص بموهبة طبيعية أكثر من غيرهم»، حسب قول مديرة هيئة التدريس في برنامج ستانفورد للمشاريع التكنولوجية، تينا سيليج، ومع ذلك، يمكن للجميع زيادة قدراتهم الإبداعية، كما يمكن للجميع تنمية خبراتهم الموسيقية، أو الرياضية، من خلال التدريب المناسب والممارسة المركزة.

الحديث السابق عن إمكانية تدريس مهارات الكتابة، وتقنيات العملية الإبداعية، يستدعي بالضرورة التفكير في السؤال القديم المتجدد: هل الإبداع موهبة خالصة أم حرفة؟ هل هي منحة ربانية أم صنعة يمكن التدريب عليها بمرور الأيام؟ في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، مرّ تاريخ الكتابة الأدبية بمراحلّ متشابكة ومتداخلة، وإن ارتضى الأدباء في ختام المطاف الجمع بين الأمرين، والتأليف بين الجانبين، وعدّوا الإنتاج الأدبي «موهبة» تلقائية لا تزدهر، أو تنمو إلا بالتعلم، والتدريب، والممارسة.

من المؤكد أن الإبداع عملية تراكمية، وتزداد خبرة الإنسان به مع مرور الوقت، والاشتغال على أدواته، ومهاراته، والفارق هنا بين كاتب وآخر، هو الاستعداد الشخصي للتطوير من جهة، ومدى جدّية العمل على تنمية الذات من جهة ثانية، لكنّ في الوقت نفسه اكتساب هذه الخبرة لا يتأتى من كتب تعليمية تقدم الكتابة في شكل نصائح، على غرار الوصفة المطوية في علب الدواء.

إن الاستمرار في الكتابة، والمطالعة، وتوسيع مدارك المعرفة، لعلها خير مرشد للتدريب والتعليم، فالإبداع ممارسة، وعملية تتطلب عينين، لكن من يفتحهما، أو يغمضهما، هو الفرد نفسه، بإرادته الحرة، الأمر الذي يدعمه السؤال: هل سمعتم من قبل عن مبدع تحقق من خلال الوصفات؟

الإبداع سعي دائم، حقيقة على الأقل بالنسبة لي، ومن ثمّ فإن أفضل المبدعين لا يتوقفون أبداً عن التعلم، واكتساب ما ينمّي حرفتهم، بوصف العملية «حرفة». وعادة ما يتم تدريس الكتابة الإبداعية في شكل ورشة عمل بدلاً من أسلوب التعليم التقليدي، وفيها يعمل المشاركون على نقد نصوص بعضهم بعضاً، كما يجري التركيز على تنمية مهارات التحرير والتقنيات الأساسية، ومعرفة الأنواع الأدبية، وتوليد الأفكار العشوائية، ومقاومة السكتة الكتابية «Writer Block». ومن خلال هذه الورش تخرّج عدد من الكتّاب المعروفين، أمثال الروائي الأمريكي مايكل تشابون، الحاصل على جائزة بوليتزر، والشاعر كارل كيرشوي، والروائي البريطاني كازوو إيشيجورو الحائز جائزة نوبل في الأدب 2017، والروائي والمسرحي البريطاني إيان ماك إيوان.

وتحقيقاً لذلك، استعاض العرب خلال العشرية الأولى من الألفية الجديدة عن كتب تعليم مهارات الكتاب ب«الورش الأدبية»، التي لاقت رواجاً كبيراً خلال السنوات الأولى من القرن الحالي، وعلى الرغم من انعقاد أغلبها بمقابل مادي ومالي، لكنّ حلم الكثيرين دفعهم إلى الانضمام إلى هذه الورش التي حملت عناوين براقة، وجاذبة، من قبيل «كيف تصبح روائياً مشهوراً»، بل بالغ بعض القائمين على هذه الورش ورفعوا شعارات «كيف تصبح أديباً في أسبوعين».

ضرورة

في السنوات الأخيرة، كانت هناك دعوات متزايدة لرعاية وتعليم الإبداع منذ سنّ مبكرة، في المدارس والجامعات. بيد أن سر إطلاق العنان للعبقرية الإبداعية لا يزال بعيد المنال، وتشير عدد من الدراسات إلى أنه من الممكن تهيئة العقل لظهور الأفكار الإبداعية. وتدريس الإبداع كنظام أكاديمي. إذن، ما الطرق التي يستخدمها المعلمون لاستخلاص تلك الشرارة؟ وهل ينبغي تدريس هذه التقنيات في المدارس؟

السؤال الأخير مردود عليه بتزايد الاعتقاد في فشل المدارس في رعاية المهارات الإبداعية، في العقود الأخيرة. على سبيل المثال، جادل المعلم والمؤلف كين روبنسو عام 2006، بأن ممارسات التعليم الحالية تسحق المواهب الإبداعية الفطرية لدى الطلاب. بينما يقول جيرارد بوتشيو، الأكاديمي في كلية بوفالو ستيت بنيويورك، إن تسليح الناس بمهارات التفكير الإبداعي لم يكن أكثر أهمية من أي وقت مضى. «لم يعد الأمر ترفاً، لكنه يتعلق بالبقاء على قيد الحياة».

وعلى الرغم من وجود عدد كبير من برامج الكتابة الإبداعية الأكاديمية في أنحاء العالم، يجادل الكثير من الناس بأن الكتابة الإبداعية لا يمكن تدريسها. وربما تراجع بعضهم عن الإيمان بذلك. ففي إطار استقصاء الظاهرة، ينقل الكاتب، لويس ميناند، في مقال لمجلة «نيويوركر» قول مديرة برنامج الكتابة الإبداعية في جامعة ولاية سان فرانسيسكو لمدة ستة عشر عاماً، كاي بويل «يجب إلغاء جميع برامج الكتابة الإبداعية وبالقانون».

تنتشر ورش الكتابة في جميع أنحاء العالم، ولكلّ ورشة ميزاتها، وفوائدها. أبرزها في العالم ورشة «The Gotham Writers› Workshop»، في مدينة نيويورك، التي تعد من أشهر الورش، وتخرّج فيها جوناثان فرانزين، وسالي رووني، وجنيفر إيجان، وورشة «Tin House Summer Writers› Workshop» في بورتلاند، وتُركز على التدريب على كتابة الرواية، وحصل خريجوها على جوائز مرموقة. كذلك ورشة «The Iowa Writers› Workshop» في آيوا سيتي، واحدة من أقدم ورش الكتابة في الولايات المتحدة. و«Faber Writing Academy» في لندن التي تقدم مجموعة متنوعة من البرامج لمستويات الكتابة، و«Arvon Writing Course» في يوركشاير، وتقام في بيئة هادئة وسط الطبيعة، وتُركز على تطوير مهارات الكتابة الإبداعية.

أما جامعة هارفارد، فتقدم برامج كتابة عدّة، أبرزها ورش الكتابة الإبداعية، والمعنية بقراءة وفحص الأعمال الإبداعية، وتعليم أساسيات النقد الأدبي، وكيفية التعامل معها، كذلك مناقشة المتطلبات، العاطفية والعملية، لكتابة الكلمات على الورق، والعقد الذي يلتزم به المؤلف مع القارئ، وكل ما ينطوي عليه ذلك من ثقة وتوقعات، فضلاً عن التدريب على مهارات اللغة وصقل استخدامها، و«الطرق الفعالة» لكسر القواعد وخرقها.

كتب تعليمية

على هامش الورش تأتي كتب تعلم الإبداع، نذكر مثلاً «كيف تكتب رواية أو قصة قصيرة؟»، للروائي أحمد المنزلاوي، وهو مؤلفه الثاني 2019 بعد أن أصدر «مهارات الكتابة والتأليف» 2017، ويضع فيهما ما يسميه «خبرة سنين، ونصائح المؤلفين، وملاحظات النقاد، وخلاصة ما كُتب عن الكتابة ومهاراتها»، من دون أن ينسى أن يستدرك أن ما جرى ذكره «من أسس وقواعد وفنيات لن تخدش إبداعك في شيء، فهي قواعد حاكمة، وليست متحكمة، ينطلق منها الكاتب، ويحلّق في سماء إبداعه من دون أن يعوقه قيد. الأمر الذي يجعل من هذه القواعد «لا شيء»، أو بتعبير الروائي محمد حسن علوان «ألقي بأصول الكتابة عرض الحائط»، «فهناك طرق كثيرة لكتابة قصة، بعدد القصص التي تلوح في أذهان الكُتّاب»، بتعبير الروائي عادل عصمت.

وتتفق الكتب التعليمية في أن «الموهبة وحدها لا تكفي»، وإن كانت الكتابة كممارسة لا تعرف المسلمات، فإنها عبارة يمكن التسليم بها، ويُراد بالموهبة هنا «الاستعداد الفطري لدى الإنسان للبراعة فيما يريد القيام به من سلوك، فكرياً كان، أو علمياً» حسب المنزلاوي، وهو ما يتفق مع ما ينقله عصمت في كتابه «كتابة القصص وبناء الأعشاش»، عن فلوبير أن «الموهبة اصطبار طويل، مسألة نظر إلى أي شيء تروم الإفصاح عنه طويلاً بمقدار وافٍ، وعن كثب إلى حد كافٍ لتكتشف فيه ناحية لم يرها، أو يصفها أحد بعد».

 مقادير الطبخة

وحول عملية الإعداد للكتابة، يشير المنزلاوي، إلى الطهي، أو بتعبيره «مقادير الطبخة»، مقتبساً مقولة المؤلف البريطاني نيل جايمان «الكتابة تشبه الطبخ شبهاً كبيراً. أحياناً لن تنفش الكعكة، مهما فعلتَ، ولكن من وقتٍ إلى آخَر ستجد أن طعم كعكتك أحلى من كل أحلامك بها». وهو ما يعده المؤلف حقيقة، ومقدماً وصفته لطبخة الكتابة، التي شملت السرد، وأنواع الرواة، وضمائر السرد، ووجهات النظر، والعرض لا الإخبار، وأخيراً تقنيات السرد. عملية الطهي وعلاقتها بالكتابة كانت محور كتاب الروائي عزت القمحاوي «الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر» 2023، واصفاً شعفه بالأمرين، الطهي والكتابة، والعلاقة بينهما في تعلّم الصبر، والحيلة، محذّراً من «اللت والعجن» في الموضعين، إذ يفسدان أي طبخة، ويقتلان أيّ إبداع.

والربط بين الموضوعين، الطهي والكتابة، ليس أمراً قاصراً على الكُتّاب العرب، فكثير من الكتابات الغربية تشير إلى الربط ذاته، مثلاً الكاتب أنتوني جوندرو، يكتب تحت عنوان «الطهي والكتابة.. المكمل المثالي»: «جزء من حبي للكتابة هو أنها التيار الخفي لحياتي اليومية. بغضّ النظر عما أعمل عليه، سواء كان 2000 كلمة، أو 80000، إنها ممارسة يومية يمكنني العمل عليها، والتفكير فيها، والتخطيط لها. كأمر مستمر، يعطيني هدفاً شخصياً بغضّ النظر عما يحدث في حياتي. وهذه مجرد المسودة التقريبية. ثم هناك التحرير، واكتشاف ما أعجبني وما لم يعجبني، وتحريك الأشياء، ودمج أفكار جديدة، والوقوع في حب الأفكار القديمة. إنها عملية تستغرق وقتاً. وفي بعض الأحيان، الكثير من الوقت».

 علاج نفسي

يؤكد القائمون على ورش التدريب على الإبداع أن الكتابة يمكن أن تكون أيضاً شكلاً من أشكال تخفيف التوتر، وجزءاً مهماً من السماح للمراهقين بمعالجة مشاعرهم بطريقة آمنة وبنّاءة. وهذا يقلل من مشاعر القلق والاكتئاب، ويؤدي إلى تحسين الصحة، العقلية والجسدية. وهو أمر بالغ الأهمية بشكل خاص، في ضوء البيانات الأخيرة التي تكشف عن أزمة الصحة العقلية بين المراهقين؛ ففي عام 2021، قدّرت منظمة الصحة العالمية أن واحداً من كل سبعة مراهقين في جميع أنحاء العالم يعاني حالة صحية عقلية. ما يسلط الضوء على مشكلة مستمرة ومتفاقمة.