في الثامن عشر من شهر آذار عام 2018، احتُلَّت مدينة عفرين، تلك المدينة الجميلة، الجبلية الخلابة، من الدولة الفاشية التركية ومرتزقتها، حيث ارتَكبوا فيها العديد من المجازر الوحشية بحق أهاليها المسالمين، ولا تزال هذه الجرائم والمجازر ترتكب إلى يومنا هذا.
ومنذ ذلك التاريخ وأهالي عفرين يعيشون ظروفاً مأساوية صعبة جداً، كمهجرين في المخيمات، أو لاجئين في بلدان الجوار، حيث قام الاحتلال التركي بتوطين عوائل لعصابات مرتزقة داعش والجيش الحر والنصرة، بعد طرد سكانها الأصليين، فاتَّخَذت بعض العوائل الكردية العفرينية مسارات للنجاة بنفسها وبأرواح أطفالها، بعد أن توجه كثيرون منهم إلى مخيم الشهباء القريب من عفرين، على أمل العودة إلى ديارهم بأقرب فرصة.
قصص وحكايا مأساوية
لقد أصبح لكل عائلة قصة مأساوية وحكاية تُفطر القلب، حيث قضى الكثير من المسنين العفرينيين كرباً وحسرة، بعد ما آل إليه حالهم بعد احتلال مدينتهم، التي قاومت على مدى 58 يوماً.
ومن بين تلك العوائل وتلك القصص الحزينة، كانت قصة عائلة “شاهين جركس”، وعائلة “محمد خليل”، اللتين اضطرتا لترك المدينة المحتلة والتوجه إلى لبنان، للبحث عن ملاذ آمن، وعن سبل عيش لتأمين معيشة أطفالهم الصغار، فما كان لهما إلا الاستقرار في بلدة أم التوت، إحدى القرى اللبنانية من قرى جبل عامل (قضاء صور)، والتي تتميز بجمال طبيعتها التي تشبه إلى حد كبير مدينتهم المحبوبة عفرين، والتي تشتهر بكثرة أشجار التوت فيها، ولهذا سميت بأم التوت.
وقد عملت تلك العائلتين في الزراعة، وسكنتا في منزلين مجاورين لبعضهما البعض، ورغم خطورة البقاء في تلك المنطقة، بسبب الغارات والاشتباكات بين إسرائيل وحزب الله، والعدوان الإسرائيلي المستمر على الجنوب اللبناني بعد معركة طوفان الأقصى في السابع من شهر تشرين الأول، عام 2023، إلا إن عائلتَي “شاهين جركس ومحمد خليل”، لم تتركا بلدة أم التوت بسبب الفقر والحرمان وعدم القدرة على تأمين مسكن بديل في منطقة أخرى. “في الفترة الأولى ذهبنا إلى أقربائنا، وبقينا عندهم لفترة، لكننا لم نكن نعلم كم ستطول هذه الحرب، وكم ستطول مدة مكوثنا عندهم، ففي البداية قلنا ربما عدة أيام، أو عدة أسابيع، لكن الحرب استمرت، ونحن نملك أطفالاً صغاراً، ولا أحد يستطيع تحمل أحد لفترة طويلة، فقررنا العودة بأدراجنا إلى مسكننا في قرية أم التوت”. هذا ما قاله شاهين جركس، والد الطفلين الشهيدين “جان ومحمد”، الملقب بـ (جيلو)، والتي تعني بالكردية الأشقر، عندما السؤال عن سبب بقائه وعائلته في الجنوب رغم خطورة البقاء.
وكان تاريخ السادس عشر من تموز 2024 ليس كباقي الأيام، لم يعتد الأطفال على أصوات الغارات، فالاشتباكات على الحدود اللبنانية الفلسطينية وعلى البلدات والقرى اللبنانية تستمر بشكل شبه يومي، فحين تخفّ الأصوات يتوجه الأطفال إلى الخارج، لقضاء بعض الوقت في اللهو واللعب.
بعد أن أكل الطفل خليل محمد خليل (11 عاماً) طعام الغداء، طلب من والدته زينب أن تلف صندويشتَين لرفيقَيه، جان ومحمد “جيلو”، وطلب أيضاً أن يأخذ لهما مشروبات باردة، لكن، ولصغر سنه ويديه، لم يستطع حمل كل تلك الأشياء، فأخذ الطعام وهرع فرحاً إلى الخارج، أي إلى المرزعة القريبة، حيثوا قضوا نَحبهم. فبينما كان الأطفال الثلاثة يلهون ويمرحون معاً، جاءت تلك المسيرة الإسرائيلية لتقضي على طفولتهم، وعلى براءتهم وأحلامهم الجميلة، ولتقضي على أرواح عائلاتهم أيضاً.
نعم، قضى الأطفال الثلاثة في غارة من مسيّرة إسرائيلية، حيث كان الثلاثة جالسين يتمازحون ويلعبون، ربما خمّنت المسيّرة الإسرائيلية أن اجتماع الأطفال هذا، المنعقد بجانب شجرة التوت، ما هو إلا اجتماع سري للتخطيط لأكتوبر جديد؟!
“كل يوم كنت أذهب إلى جارتي زينب والدة الطفل الشهيد خليل، وكنت أبكي وأشكو لها بألم وحسرة متسائلةً: إلى أين نذهب؟ وماذا لو حدث لأطفالنا أي مكروه؟ ماذا عسانا نفعل حينها؟، كنت أخشى كثيراً على الأطفال، كانوا يرتعبون من أصوات القصف ومن هدير الطائرات ودوي القذائف، ومن صراخ الصغار المرتعبين في الجوار، “هكذا تحدثت الأم المفجوعة نوروز بألم، والدموع تنهمر من عينيها الجميلتين كالمطر”.
زينب، التي تحدثت بحرقة وفؤاد منكسر، عن طفلها المضحي “خليل”، الذي كان ورغم صغر سنه، يعمل في الزراعة، ويقدم العون والمساعدة لوالدته المريضة، قالت: “لا يمكن للجراح أن تلتئم، سيظل فقدان خليل جرحاً ينزف طوال الحياة، لا شيء بإمكانه التعويض عن خسارته أو العزاء له، طفلي الصغير الذي كان يحلم بامتلاك دراجة صغيرة، خطفه الموت على يد إسرائيل قبل أن نحقق له حلمه الصغير هذا”.
لم تستطع مواصلة كلامها الذي اختلط بدموعها، كان نحيبها يتعالى وهي تتذكر ملامح طفلها الوسيم الذي استشهد دون سابق إنذار، فراحت تطرح الأسئلة وتتسائل: “لماذا كُتب علينا نحن الكرد كل هذه المآسي؟ متى ستنتهي مسيرة الألم والحزن في حياتنا؟”.
الشهادة.. حالة شبه يومية بين الكرد
وبعد أن أصبحت الشهادة حالة شبه يوميّة بين العوائل الكردية، وخاصة في العقد الأخير، تحول ألم الفقدان إلى صورة الواقع عند آلاف العائلات الكردية، فحين كنت في العزاء، كان لأغلبية الحضور أخوة وأخوات شهداء، فقدوا حياتهم في قتالهم ضد مرتزفة داعش في شمال وشرق سوريا، وكانوا يتحدثون عن ألم الفراق، ذلك الألم الذي من الصّعب أن يتبدّد، أو يزول مع مرور الوقت، كانوا يتشاطرون الأحاديث الجانبية، ويتساءلون: “ها هي قلوبنا تتفطر، فكيف بمقدور قلوب أمهاتنا اللواتي يفقدن أبناءهن في الحروب والصراعات أن تتحمل؟”.
وعند توجيه السؤال لوالدة خليل عن لحظة معرفتها بالفاجعة، أجابت: “بعد الغارة الإسرائيلة التي استهدفت الأطفال في المزرعة، لم نكن على دارية بأن صغارنا سيكونون هذه المرة هدفاً في بنك الأهداف الإسرائيلية، وبعد برهة، بعد أن تعالى الدخان من مكان تواجد الأطفال، أدركنا حينها أن الكارثة قد وقعت على أطفالنا، وأنهم هم الضحية وهم المستهدفون”.
وتابعت: “ولم نصدق ما رأيناه، كان مشهداً فظيعاً، حيث كان الأطفال الثلاثة ملطخين بالدماء، حينها شعرنا بأن أرواحنا وحياتنا أيضاَ تلطخت بالحزن والحسرة، تماماً كالأرض التي ارتوت بدمائهم الطاهرة”.
كانت أم خليل تتحدث بغصة حارقة وبحسرة كبيرة، متسائلة: “كيف لنا أن نعيش في قرية أم التوت بعد اليوم؟ لأن الذاكرة التي سنسير بها هنا، ستذكرنا كل يوم بتلك الفاجعة، وسترافقنا كلما نظرنا إلى شجرة التوت تلك، أو إلى الحقل والبستان، حيث لعب ومرح فيها خليل”.
إراقة دماء الكرد
أراقت إسرائيل مرة أخرى دماء الكرد في الجنوب اللبناني، هذه الجريمة أرجعتني سنوات عديدة إلى الوراء، وتحديداً إلى عام 1982، وبشكل أدق في السادس من شهر حزيران، فبينما كانت قوات عسكرية إسرائيلية تهاجم قلعة شقيف الأثرية، بهدف القضاء على القوات الفلسطينية في لبنان، كانت دماء الرفاق الشهداء الكرد الثلاثة عشر (محمد أتماجا، ولي جاكماك، عصمت أوزكان، كمال جليك، أمين ياشار، شريف آراس، مصطفى مارانكوز، شهاب الدين كورت، عرفان آي، سليمان توزجو، كورجان أوزجان، عبد الله كومرال، عبد القادر جوبوكجو)، الذين قاوموا جنباً إلى جنب مع رفاقهم المقاتلين من القوات الفلسطينية، وتصدّوا العدوان الإسرائيلي، لتختلط دماؤهم بدماء الثوار الفلسطينيين، تتويجاً لإيمانهم بعدالة القضية الفلسطينية على غرار عدالة وأحقية القضية الكردية.
واندلعت هذه المعركة التاريخيَّة الشهيرة، التي أصبحت نموذجاً عسكرياً تتناقله الأجيال، بل وحتى الأكاديميات العسكرية الإسرائيلية، حين أقدمت إسرائيل عام 1982 على اجتياح بيروت من أجل القضاء على حركة المقاومة الفلسطينيَّة، فما كان من الثوار الكرد إلا أن قاوموا وأراقوا دماءهم الطاهرة في الجنوب اللبناني ضد العدوان الإسرائيلي الصهيوني.
وها هو الإسرائيلي اليوم يريق ثانيةً دماء الكرد في الجنوب اللبناني، مع فارق بين الحادثتَين، هي أن حادثة، أو لنقل معركة “قلعة الشقيف” التاريخية، كانت شاهدةً على بسالة الثوار الكرد في تصدّيهم للهجوم الإسرائيلي البري على الجنوب اللبناني، أما حادثة “بلدة أم التوت”، فهي مجزرة بحق أطفال كرد الأبرياء، لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا يلعبون في الحقل، غير آبهين بغدر العدو الصهيوني باستهدافهم جواً!