سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

من صميم الفاجعة.. حريق سينما عامودا

في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني 2023 م، تمر الذكرى الثالثة والستون على حريق سينما عاموده في مقاطعة الحسكة بشمال وشرق سوريا، هذا الحريق الذي أودى بحياة أكثر من (280) طفلا من تلامذة المدارس، وفحوى القصة كالتالي: حين بدأت الثورة الجزائرية الكبرى عام 1954م. قامت الدولة السّوريّة بحمله لجمع التبرعات والمساعدات للشعب الجزائري الثائر، وشملت هذه الحملة أيضاً مدينة عامودا لجمع التبرعات من سائر أطياف وشعوب البلدة الهادئة الوادعة، وتم التخطيط لعرض فيلم مصري بعنوان “جريمة في منتصف الليل” في دار السينما في عامودا بذريعة استخدام ثمن التذاكر كتبرعات، وتم فرض حضور مشاهدته على مدارس المدينة، وطلب مدراء المدارس من طلابهم بأن يجلب كل طالب مبلغا وقدره ربع ليرة ثمنا لبطاقة الدخول إلى السينما، وحضور الفيلم الذي لا يناسب أعمارهم، وكلّ من يمتنع عن ذلك هُدد بالطرد من المدرسة، وألقى مدير مدرسة الغزالي خطبة حماسية ألهب من خلالها حماسة الطلاب والجماهير، وأشاد المدير بكرم ووطنية وغيرة الكرد، وطلب منهم مساندة إخوانهم الجزائريين وضرورة الحضور والمشاركة يوم الأحد 13 – 11 – 1960 قبل الساعة السادسة مساءً.
مبنى أو دار السينما
يقول العلامة أحمد نامي رحمه الله، والأستاذ المرحوم حسن دريعي: إن المبنى كان بدائيا بسيطا، وهو في الأساس والحقيقة كان اصطبلا لسنين خلت، بل أشبه بحظيرة للدواب حسب قول المرحوم ملا أحمد نامي، فالمبنى كان يضم: كراسي خشبية متحركة من سعف النخيل، ومصباح وشاشة، والجدران من اللبن والطّين، أما السّقف كان عبارة عن أعمدة خشبية وقش، والستائر كانت عبارة عن أسمال بالية من خيش عتيق مطلي بدهان قابل للاشتعال سريعا.
إنّ السؤال الملح الذي يطرح نفسه بإلحاح كيف سمحت السلطة في بلدة عامودا لإصطبل أو حظيرة دواب أن تغدو دارا للسينما لعرض فيلم يتكون من فصلين؟
كما كانت السينما تعمل على مولد قديم يتعالى هديره حينا، ويخبو حينا آخر. إذ كان المبنى من الطراز الطيني المتهالك (طوله 18 مترا، وعرضه ستة أمتار) ويتسع لـ (300) مشاهد، وحضر الفيلم جميع تلامذة مدرسة الغزالي، والمتنبي، وعدنان المالكي، وحوالي الساعة السابعة رنّ الجرس إيذانا ببدء الفيلم، وكم كان المكان ضيّقا يغص بالحضور.
وبعد دقائق معدودة ازيح الستار وبدأ الفيلم والتلاميذ آذان صاغية وأحداق تحدّق إلى أن انتهى المشهد الأول، وبعد استراحة خاطفة وحسب أحد شهود الفاجعة، الذين نجوا من الجحيم ذهب صاحبيّ السينما أحمد حسنات، وعزيز ماكو إلى مدير ناحية عامودا الرائد مصطفى شعبان، وطلبا منه السماح لهما بوقف بث الفيلم؛ لأن محرك العرض قد حمي أكثر من اللازم، ولا بد من إطفاء المولد خشية حريق ما، وتحسبا لأمر طارئ وحفاظا على سلامة التلاميذ، فرد مدير الناحية بغضب: “أنتم لستم وطنيين، ويجب أن ينتهي المشهد الثاني من الفيلم…” وفعلا استمر بث المشهد الثاني بناء على أمر مدير الناحية.
بدأ المشهد الثاني، وقد أصبح محرك العرض حاميا جدا وتلا ذلك تطاير الشرر على شكل سهام نارية حمراء تتعالى باتجاه الجدران والسقف؛ فأدرك الحضور أن السينما بدأت تحترق فلاذ المشاهدون بالفرار، وبعضهم خرج دون عناء كأولاد مدير الناحية بمساعدة المرافقة الخاصة بهم، وبعد أن اشتد أوار اللهب قفز البعض من الطابق الثاني، ومن النوافذ ينشدون النجاة، وبر الأمان، ثم أظلمت السينما بالدخان المتصاعد إلى عنان السماء، وفر الفتى كوركين طالبا النجدة، ويستغيث النجدة النجدة فالسينما تحترق فهرعت الناس من كل حدب وصوب كالموج الهائج المتلاطم يتقدمهم محمد سعيد آغا الدقوري، الذي اقتحم كبة أتون النار المستعرة متحديا الموت الزؤام دون خوف أو وجل فأخرج اثنين، وهما أحياء ثم كر مرات أخرى واستطاع إنقاذ اثني عشر طفلا من قلب خضم ألسنة اللهب. لكنه في المرة الأخيرة من إقدامه التهمته النيران من رأسه حتى أخمص قدميه، وانطبق المبنى دون رحمة على الأطفال الأبرياء، وفقدت عاموده (280) طفلاً قضوا في موقد السينما، وبدأت المآذن تكبر والنواقيس تقرع في الأديرة والكنائس وتعزف ألحان الحداد، والفجيعة ولا زالت العجائز تدندن أغنية الوداع الأخير. وحين سمع الشاعر الكبير المرحوم محمد مهدي الجواهري القصة كاملة من الأخ إسماعيل رمضان في الفندق الذي نزله، الشاعر في دمشق، فأهداه قصيدة في رثاء شهداء عامودا المنكوبة ومن جملة ما جاء في نص القصيدة:
عامودا أجد الحياة بذكرها/ وأحس طعم حروفها بلساني
نعم أسبّح ما حييت بذكرها/ وأجلّ صورتها عن النسيان
وقد عرفت الروائية الجزائرية الكبيرة أحلام مستغانمي بالقصة الوثائقية لمجزرة سينما عامودا، ومحنة سكانها وأطفالها الذين احترقوا بنارها لأجل الشعب الجزائري، وذلك أولا عبر رسالة (أسرة عامودا تحترق) كون الكاتبة الجزائرية أحلام تستوعب وتستسيغ لغات الشعوب.
فالذكريات حول الفاجعة كثيرة، حيث يحمّل معظم أهالي عامودا كلاً من وزير الداخلية اللواء عبد الحميد السراج، ومدير ناحية عاموده الرائد: مصطفى شعبان، ومسؤولي بلدية عامودا مصطفى قدورة وطاقمه، ومدراء ومعلمي المدارس الثلاث (وهم من مصر). ولا زالت ذكريات الفراق الأبدي الطافحة بالفجيعة، والأسى تنخر عقولنا وتمزق أكبادنا فلكل شعب جراحاته الثخينة، التي تقاسموها مع الأحباب والخلان والأمهات الثّكالى. أما جراحات الكرد فهي قصة تاريخية لم تنكفئ، ولم تنته فصولها الدموية الدامية إلى اليوم.
[1] حسن دريعي؛ عامودا تحترق/ الجزء الثاني؛ ص39.
[2] نوري شنو (أبو علي) من سكان عاموده.
مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية