حكايتنا اليوم ستكون عن بعضٍ مما حصل من روايات الناجين من معركة تحرير الرقة من داعش، أردت أن أرويها اليوم في حكاية وطن لأقول فيها بأنه في الشدائد يظهر المعنى الحقيقي للأشخاص، روايات فيها الكثير من الألم والأمل والصمود والتضحية، روايات لن أسمي فيها الأشخاص، فكثيرة تلك البطولات وكثيرة تلك الروايات، روى لي أحدهم أنه ومع اشتداد الحصار على الرقة وأسر داعش للمدنيين كدروع بشرية يحتمون خلفها كان هناك نقص كبير وحاد بالمواد الغذائية والطبية والماء فكان من تبقى من مدنيين ينتظرون الخلاص يتجمعون معاً في أقبية الأبنية يحتمون بها من قصف ومن وجود هؤلاء الظلاميين حولهم، وكان المدنيون يدخلون البيوت ليأخذوا ما تبقى من مؤونة وماء رغم شحها الشديد ليستعينوا بها على مقاومة الموت واليأس. كانوا يجتمعون ليغنوا سراً أغاني تشد من عزمهم بصوت خافت خشية من ظلم الظَّلمة وليعطوا بعضهم البعض معنويات تشد من قوتهم، كانوا يستبشرون بقرب خلاصهم ويبشرون بعضهم البعض وهكذا يمضون وقتهم صلاةً ودعاءً بالخلاص والفرج، وفي يوم لم تعد هناك أي كمية من الماء في ذلك الحي الذي يحتمون فيه قام رجل في أربعينيات العمر كان قد ودع أهله وأخواته وإخوته الذين خرجوا وبقي هو يرعى أخوه المريض بالسكر مبتور القدم، قام ذلك الرجل مضحياً بنفسه بالخروج والبحث عن ما يعين هؤلاء على البقاء صامدين على أمل الخلاص من تيه الرعب المحيط بهم، ذهب الرجل باحثاً تتبعه دعوات وصلوات لعودته سالماً، ودّعهم لتجري على خديه دمعة تحكي مدى الألم والمصير المجهول، خرج وبدأت ساعات الانتظار؛ صفير قذيفة هنا، وصوت انفجار هناك، صوت زخات من طلقات هنا وهناك، يستنفر المنتظرون، تبكي طفلة لتحضنها أمها حيث تشعر بالأمان قائلة “هانت يما بكرة يجون ونخلص ونشوف خالو وخالة وتلعبين مع ولاد عمو”، لتمسح الطفلة دمعتها التي تركت أثرها على خدها من الغبار العالق على وجه طفولي شيبته سنوات الحرب، صوت انفجار هائل زلزل القبو الذي يحتمون فيه، أصوات الشظايا المترامية، صمت مطبق يعم المكان، رائحة البارود الخانقة تسد الأنوف، أصوات الدعاء الخافت بدأت تسمع بين المحتمين من ويلات الدمار بعد أن عاد لهم سمعهم، اطمأنوا على بعضهم البعض ولكن قاطعهم صوت ضعيف يئن ألماً “ألم يعد؟ لقد تأخر!” اقتربت الساعة الخامسة من غيابه، فقد أخوه الأمل ثم بكى وعلا نحيبه ليقاطعه صوت قائلاً “ها هو ذا قادم”.
لقد رجع وهو يحمل الكثير من الماء محيطاً بأوانيه جسده الضعيف المنهك، يجر أمامه عربة أطفال مملوءة بأواني الماء وبعضاً من برغل ورز، فرحوا وركضوا إليه ليساعدوه، كان يطعمهم قبل أن يأكل، يسقيهم قبل أن يشرب، يطمئن عليهم قبل أن يناموا ويعطيهم أملاً بأن القادم خير.
يطبخ لهم، يحنو على الجميع، ولكن الظلاميين قتلوه، اغتالوا الخير ليُترك جثة بتهمة محاولة هروبه في وقت كان يسعى لإيجاد ما يعين المنتظرين ويقويهم، رحل الشهيد وبقيت ذكرى أفعاله التي سيرويها الناس ويحكيها الوطن.