مع إقرار البرلمان التركي قانون “حراس الليل” أو “الإحياء” رغم المعارضة الواسعة، تتجه تركيا إلى شرعنة أعمال الميليشيات المسلحة، وهو مسار يخالف توجه الدول والحكومات إلى التخلص من حكم الميليشيات والمجموعات المسلحة تجنباً للفوضى، ولترسيخ سلطة الدولة والقانون، ولتكريس الشفافية في علاقة المواطن بمؤسسات الدولة، ولاسيما القضاء والأمن وغيرها من المؤسسات الحيوية التي لها علاقة بحياة المواطن اليومية. ولكن ما يجري في تركيا هذه الأيام هو العكس تماماً، والغريب أن حكومة نظام أردوغان تتجه نحو تحويل الدولة إلى حكم الميليشيات، فمن تجربة “حراس القرى” التي وجدت لمحاربة الحركة الكردية في مناطق جنوب البلاد وشرقها بعد تصاعد نشاطها، إلى تجربة “حراس الليل” أو “الإحياء”، وما بينهما من تجارب مشابهة أو مماثلة، مثل شركة “سادات” ومجموعات “القبضايات” وحتى دعم المجموعات المسلحة والإرهابية في شمال سوريا وشرقها وكذلك في ليبيا، تتجه تركيا إلى حكم الميليشيات في المرحلة المقبلة، وهي ميليشيات تشبَّهُ كثيراً لنظيراتٍ لها في إيران، مثل الباسيج وغيرها من المجموعات التي تعمل كأذرع أمنية للنظام وغالبا بشكل مخالف للدستور والقانون.
لعل السؤال البديهي هنا، لطالما هناك قوى أمنية نظامية تتبع لوزارة الداخلية وغيرها من المؤسسات الأمنية النظامية، فما حاجة أردوغان إلى هذه المجموعات المسلحة “حراس الليل”؟ ولماذا التوجه إلى الاعتماد على هذه الميليشيات في هذا التوقيت؟ هل هو غياب الثقة بالمؤسسات الأمنية والعسكرية للدولة من شرطة وأمن وجيش واستخبارات؟ والأهم هنا أيضاً، ما هي تداعيات ما سبق على حياة المواطن والقوى السياسية في تركيا؟ في الواقع، المهام التي أعطيت لهذه المجموعات ولاسيما “حراس الليل” هي حماية الأسواق والأحياء، وهي مهمة تعطي صورة واضحة لوظيفة هذه المجموعات ودورها، إذ من مهامها، تفتيش السيارات، وسؤال المواطنين عن هوياتهم، وحمل السلاح، والتدخل في الأحداث الأمنية، واعتقال الناس وتوقيفهم، وهي مهام تفوق حتى مهام القوى المنظمة التابعة لوزارة الداخلية. ومن جملة ما تعني هذه المهام، التضييق الدائم على الحريات الشخصية، خرق الدستور والقوانين والنظام القضائي، وجعل حياة المواطنين تحت المراقبة الدائمة، وقمع الناس عند أي تحرك حتى لو كان مطلبياً أو اجتماعياً أو خدمياً، فضلاً عن دور أخطر، وهو منع أي تحرك سياسي أو شعبي لمساندة التغيير السياسي في إطار التداول السلمي للسلطة حتى لو كان من بوابة صناديق الاقتراع، نظراً لأن ممارسات هذه المجموعات المؤلفة أساساً من أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم وأنصاره، تهدف إلى ردع الخصوم السياسيين، ومنعهم من ممارسة نشاطهم السياسي كما ينبغي.
كل ذلك بهدف الحفاظ على سلطة الرجل الواحد، وتعزيز قبضته على الحياة العامة في البلاد، إذ أن هذه المجموعات في الحقيقة ستكون بمثابة الجيش السري لأردوغان وتطلعه إلى حكم الخلافة بحلول عام 2023 كما يخطط أردوغان، إذ غالباً، ما تطلق على العناصر المنضوية في هذه المجموعات المسلحة صفة “جنود الخلافة”، تعبيراً عن البعد الإيديولوجي الديني الذي يعتمده أردوغان في الحفاظ على حكمه وتوطيده. وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين، قسم في الداخل ومهمته محاربة الخصوم السياسيين من خلال القمع والاعتقال، وقسم يتم إرساله إلى الخارج، وأغلبهم من شركة “سادات” التي تقوم بتدريب وإرسال المرتزقة إلى الخارج، كما هو الحال في ليبيا والصومال ومن قبل إلى سوريا والعراق، تحت عناوين عديدة، وهم في الحقيقة بمثابة الجيش السري لأردغان وذراعه الأمني والإيديولوجي لتنفيذ أجنداته.
ولكن ماذا يعني كل ما سبق؟ هل يعني أن أردوغان لا يثق بالجيش التركي ومؤسساته الأمنية رغم كل ما فعل به تحت عناوين الإصلاح وزجه في حروب خارجية؟ وهل يريد أردوغان تهميش دور الجيش إلى ما لا نهاية في ظل هاجسه الدائم وخوفه من انقلاب عسكري ضده؟ وتالياً، هل يريد أردوغان الاعتماد على الميليشيات المسلحة المضمونة الولاء له في إدارة أمور البلاد؟ في الواقع، ما يريده أردوغان هو الحكم المطلق، واستخدام هذه المجموعات بشكل غير دستوري ضد كل من يعادي حكمه في الداخل أو يعيق أجنداته في الخارج، وهو هنا بممارساته هذه، يتصرف كديكتاتور كما كان حال هتلر من حيث الاعتماد على الشعبوية والإيديولوجية في تحقيق طموحاته السلطوية الدفينة، دون أي اعتبار للدستور والقانون والقضاء. ويكفي هنا أن نذكر أن جماعة حماة أو “حراس القرى” قتلت واغتالت آلاف الكرد ولاسيما من المثقفين والحقوقيين والناشطين في المناطق الكردية بجنوب شرق البلاد، حيث سجلت هذه الجرائم ضد فاعل مجهول لتجنب محاكمتهم، والأمر نفسه تكرر عندما تم إعفاء مجموعات “بيكتشي” التي قامت بأعمال قتل واعتقال خلال التصدي للمحاولة الانقلابية المزعومة الفاشلة عام 2016، وهو ما شجع هذه المجموعات على ارتكاب المزيد من أعمال القمع والقتل والتصرف خارج القانون، وعليه تبنى أردوغان هذه المجموعات بقوة لحماية نظامه بالدرجة الأولى، لكن في الحقيقة، ما يفعله أردوغان هو تحويل الدولة إلى حكم للميليشيات، وما يدفعه إلى ذلك هو تطلعه إلى الخلافة انطلاقاً من البعد الإيديولوجي كما قلنا، وهو بذلك يعرِّض تركيا إلى مرحلة شديدة الخطورة، عناوينها الفوضى والاقتتال الداخلي وإطلاق يد الميليشيات، والقضاء على ما تبقى من حريات وحقوق للمواطنين، وهو من دون شك سيؤدي إلى المزيد من الاحتقان الداخلي وتصاعد الضغوط على شكل توفير فرصة حقيقة للمعارضة في اللجوء إلى الشارع ضد حكم أردوغان