الدكتور بسام شفيق أبو غزالة من مواليد مدينة نابلس سنة 1940، درس في مدارس نابلس، ثم درس الصيدلة السريرية في الجامعة الأميركية في بيروت، وتخصص فيها، مارس الصيدلة ردحاً من الزمن، ثم تفرغ للكتابة والترجمة.
كتب أبو غزالة الشعر والرواية وأبدع فيهما من رواياته “العشق المر” و”إقامة شرع الله”، وله مجموعة شعرية بعنوان “رباعيات”.
“أم جعفــــــــــــــر”
كلُّهم، إذا أوَوْا إلى فراشهم، استولى عليهم سلطانُ النوم، إلّا أمّ جعفر: إنْ نامت نام طيفُه الحبيبُ معها، وإنْ صحتْ صحا طيفُه الحبيبُ معها.
تشتاق إليه، فتُحادث طيفَه، حتى إذا رآها غريبٌ ظنّ مسًّا أصابها؛ أو تُكرّر على أولادها صفاتِه؛ أو تتلهّى بمشاهدة صوره طفلًا، وأحبُّها إلى قلبها صورتُه وهو لم يبلغ السنة، محمولاً على ذراع أبيه، المعتزِّ به اعتزازَه بملابس الميدان التي كان يلبسها كرفاقه الثوّار قُبيْل النكبة.
“أتذكرُ يا ولدي كم كنتَ تفرح لمرأى أبيك وهو يأتي الدارَ حاملًا بندقيّتَه، شادًّا على وسطه وصدره حزامَ الذخيرة؟ كنتَ، إذا حملكَ، تمدّ يدَكَ إلى عقاله، فيطأطئ لكَ رأسَه، ثمّ يخلع كوفيّتَه ضاحكًا، ويلفّها على رأسك الصغير، ويحيطها بالعقال، ثمّ يأخذكَ إلى المرآة لترى صورتك، فتنظرُ إلى مَن حولك ضاحكًا بسنٍّ كأنّها سنُّ أرنبٍ صغير. آه ما أجملَكَ يا حبيبي! وها أنت الآن على خطى أبيك، تلفّ الكوفيّةَ على رأسك، وتحملُ الرشّاشَ في يدك، لتستعيد وطنًا عجز جيلُ أبيك عن استعادته.”
عند هذه اللحظة كانت عيناها تنضحان بدمعٍ يسيل صامتًا على وجنتيها اللّتين استلَّ الدهرُ نضارتَهما. حتى إذا اشتدَّ بها الشوقُ، قامت إلى حقيبة سفرٍ صغيرةٍ ترزمُ فيها بعضَ ملابسها، وأبلغتْ أُسرتَها أنّها ذاهبةٌ إلى بيروت لترى ولدَها جعفر، مصطحبةً معها ولدَها الأصغر، حمزة.
نهضتْ من فراشِها فجرًا وقلقُ السفر مستبدٌّ بها. صلّت الفجرَ وأطالت سجودَها، تسألُ ربَّها جميلَ الصبرِ وحُسنَ العاقبة. بعد الصلاة حاولت التأمُّلَ والاستخارة، لكنّ فكرَها كان مشوَّشًا. غلت فنجانَ قهوة وتسلّت بشربه أمام نافذةِ بيتها المطلّة على الزقاق، الذي بدأ دبيبُ خلق الله يتزايدُ فيه. كلّما مرّ شابٌّ أمامها، ألبستْه هيئةَ ولدها، وسرحتْ به غائصةً في لجّةِ حلمٍ ورديّ:
فتارةً تخاله عائدًا إلى البيت من عمله، هاشًّا باشًّا لإخوته وأخواتِه، مقبلًا عليها، متبرّكًا بتقبيل يديْها؛ فتُجلسُه إلى جانبها، مستأنسةً به، فخورةً برجاحةِ عقلهِ، وقد أصبح كبيرَ البيت بعد استشهادِ أبيه، يومَ حاول ببندقيّةٍ عتيقةٍ التصدّي لجيش الاحتلال في حزيران. وتارةً تذْكرُه وقد علمتْ باعتقاله، ثمّ بإبعادِه مع عددٍ من أصحابه إلى الضفّة الشرقيّة.
منذ ذلك الحين لم تطأ قدمُه عتبةَ الدار، ولم تحظَ عيناها بلمحه مارًّا تحتَ النافذة في الزقاق قبل أن يدخل من الباب.
استيقظ الأولادُ ودبّت الحركةُ في البيت، فقامت تُحضّر لهم الفطور. وعلى مائدة الطعام آذنتهم بعزمها على السفر لرؤية أخيهم جعفر في بيروت. قال لها حمزة إنّ أخبار بيروت لا تُشجّع على السفر. لم تكن جاهلةً بما يعلمُ حمزة من أخبار لبنان، لكنّ شوقَها إلى جعفر جعلها لا تعترف بما تعلم. فسألت حمزة بلهجة استنكار:
ــ ماذا تعني؟
ــ لقد اجتاح العدوّ الجنوبَ، وأخشى أن يجتاح بيروت.
ــ وهل نتركُ جعفر لقدره؟
ــ يمَّه، في هذه الظروف قد لا نستطيع أصلًا رؤيتَه.
ــ نذهبُ إليه أينما كان.
بعد جدل، رضخ حمزة لتصميم أمّه، ورزمَ بعض ملابسه وملابسها في حقيبةٍ صغيرة، ورافقها إلى مكتب السفر. وبعد أن قطعوا تصريحَ الخروج، أخذوا سيّارة الجسر وشرّقوا إلى عمّان، ومنها إلى الشام، فبيروت.
كان جعفر يقطن في عمارةٍ قريبةٍ من جامعة بيروت العربيّة. في الطريق، شاهدتْ بعضَ الشباب يطْلقون النارَ في الهواء. وجب قلبُها بشدّة، فأخذت تتلو ما تيسّر لها من آياتٍ قرآنيّة. استأنفَ السائقُ السيرَ إلى حيث وُصِفَ له العنوان.
في الحارة أمسك حمزة بذراعِ أُمّه، وتوجّه صوب العمارة التي يسكنُ فيها أخوهُ الأكبر. كان المدخل مزدحمًا بالنساء. مازال قلبُ أمِّ جعفر يجبُ بقوةٍ تكادُ تعييها عن تحريك ساقيها. لكنّها تحاملتْ على نفسها حتى بلغت شقّة ولدها في الطبقة الثانية. وهناك وجدتْ ما كانت تخاف أن يكون.