تحقيق/ فيروشاه أحمد –
بات المشهد السوري يستفحل يوماً بعد يوم منذ بداية الأزمة قبل سبع سنوات وبشكل لافت للنظر، وما التصعيد اليومي الذي يعيشه السوريون إلا تأكيداً على استمرارية هذه الأزمة. والمقايضة السياسية بين القوى الإقليمية والنظام من جهة، وبين القوى الدولية والنظام من جهة أخرى، أصبحت كبورصة ينال منها كلُّ سياسيٍّ أرباحَ أجنداتِه، من خلال تواجد قوة بلاده العسكرية على أرض سوريا.
الجنوب السوري ليس أوَّل مشهد ولن يكون الأخير، فالقادمات من الأيام السياسية والعسكرية قد تفاجئ الكل بخارطة سياسية جديدة وإن تأخَّرت معالمها للآن.
أمام هذه الضبابية السياسية تم بناء علاقات أو إنهاء تحالفات، لأن الكل يضع نصب عينيه مقدار أرباحه السياسية والاستثمارية قبل أي حالة أمن واستقرار لسوريا وللسوريين، والكل يدرك أن المصالح السياسية والاقتصادية لها من القيمة أكثر بكثير من القيم الأخلاقية والمجتمعية.
المقايضة السياسية: هي عبارة عن لغة سياسية أو أدوات مادية (عسكرية) يُراد منها معالجة أمر سياسي أو اقتصادي، كي ترجع العلاقة بين الحاكم والرعية.
وتدخل المقايضة ضمن صنع قرار سياسي وإداري بين دولتين أو أكثر بقصد إفشال أو عرقلة حالة سياسية أو ثورية، أو تغيير أو إصلاحٍ في دولةٍ ما، وهي آليات غير ديمقراطية تخدم إعادة ترتيب بنية النظام أو سلطة ما، حتى إنْ تكلَّلت العملية بنجاحٍ مُؤقَّت وتسهم في إدخال شيءٍ من الاستقرار كي تتمكن السلطة من الاستمرار في نظامها، إلا أنها لا تخدم الديمقراطية كونها هي التي تحتضن الاختلافات في الرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية عند الدول.
المقايضة تاريخياً
قامت معظم الأنظمة الاستبدادية على تحقيق انتصاراتها الوهمية والمؤقتة كردِّ فعلٍ أمام تبلور وتحقيق انتصاراتٍ حقيقيةٍ لدولةٍ ما أو حركة تحرر تدعو للحرية والاستقلال.
ففي 1975م أقدم النظام العراقي على مقايضة النظام الإيراني بالتنازل عن شط العرب مقابل توقف الشاه عن دعم حركة التحرر الكردية في الشمال العراقي، فكانت اتفاقية الجزائر التي أنهت تلك الحركة مؤقتاً، هذا النوع من السياسات الرخيصة ما زال متبعاً بين كل من يملك قراراً سياسياً (أمريكا أنموذجاً) ولكل عملية سياسية على مبدأ المقايضة لها أدواتها المعينة، ولم تكن هذه السياسة وليدة السنين الخوالي، بقدر ما هي موغلة في القدم من العصر السومري مروراً بالفراعنة، وبقية الامبراطوريات والدول الحديثة.
ففي الألف الثالث قبل الميلاد أثناء العهد الحوري كانت هناك مقايضات تجارية بينها وبين أوغاريت، وبينها وبين الفراعنة، وتم رسم الحدود بمصاهرات سياسية، وفي 1700 قبل الميلاد عمد الميتانيون إلى اتباع السياسة نفسها مع الفراعنة حين وقعوا صلحاً تم بموجبه مقايضات تجارية بينهما، وما عزز هذه العلاقة التزاوج بين العائلة الحاكمة (نفرتيتي أميرة ميتانية في بلاط أمنحوتب) وفي العهد الميدي تحالف الكرد والبابليين في وجه الظلم الآشوري، وحين سقوطها رسمت كل امبراطورية حدودها السياسية، وكانت المقايضة التجارية والسياسية قائمة بينهما، وأيضا ما عزز هذه المقايضة زواج (نبوخذ نصر) الملك البابلي من الأميرة الميدية (أميتيس)
ولو فتشنا في صفحات التاريخ لوجدنا الآلاف من المقايضات السياسية بين الدول راح ضحيتها دول وشعوب نتيجة المصالح العابرة والآنية، وعدم الالتفاف إلى أية قيمة أخلاقية أو إنسانية، ولأننا في عصر باتت الحداثة الرأسمالية غولاً يبتلع كل القيم الأخلاقية وتنشر ثقافة الربح الأعظمي واستغلال الشعوب، وما تملك من ثروات، فتلجأ إلى صنع كيانات دكتاتورية شمولية (قومية أو دينية) تخدم مصالحها الشخصية والعائلية وتستفرد هي باستغلال المجتمعات كقطيع لا يملك قراراً يخصه.
عفرين … مقايضة دولية
انتصارات الكرد بدعمٍ من التحالف على قوى الإرهاب في الشمال السوري أقلق البعض، وما أثار قلقهم أكثر أنهم أي الكرد عملوا على بناء مؤسساتهم السياسية والمدنية والخدمية والثقافية، وإشراك كل المكونات في الإدارة الذاتية ومشروعها الوطني (الفيدرالية)، لكن أردوغان لم يهدأ له بال فعمد إلى لعبة سياسية قوامها المقايضة مع الجانب الروسي، وهي بكل المقاييس لعبة وسياسة غير أخلاقية، توضَّحت خيوطها قبل وأثناء احتلال تركيا لعفرين.
بوتين (المقامر) يعرف من أين تُؤكل كتف أردوغان، حين تعهَّد بإفشال المشهد المجتمعي في عفرين، مقابل أن يحافظ عدوه على استقرار سوريا، هذه المقايضة لها تفاصيل وجزئيات متصلة بمستقبل الكرد السياسي في سوريا، هذه المبادلة اللاأخلاقية تعهَّدت بها تركيا حين طلبت منها إغلاق كافة المعابر التي تربط سوريا بتركيا كي لا تستفيد المجموعات المرتزقة من أي دعم بشري ومادي، من جانب آخر أكدت موسكو ألا تتدخل أنقرة في أي عملية أو محاولة لتغيير النظام السوري، بالإضافة إلى إبعاد مقاتلي الشيشان والقوقازيين عن أراضيها.
بذات السياق طلبت تركيا من روسيا تعهداً واضحاً بعدم تقديم أي دعم للكرد لإقامة مناطق حكم ذاتي، أو (كيان) مستقل لهم على حدودها الجنوبية، ولم تكتف بالشمال السوري، بل طالبت تركيا غريمتها بعدم دعم الكرد بفكرة الاستقلال والانفصال في جنوب شرقي البلاد، بالإضافة إلى رفع كل العقوبات والقيود عنها، والإسراع ببناء خط أنابيب غاز (السيل التركي).
ما بين المقايضات والتوافقات
عندما أعلن عن نص بيان جنيف واحد والقرار الأممي 2254 الصادر عن الأمم المتحدة على إنشاء لجنة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، ومن ثم إصدار إعلان دستور سوري يؤسس لمرحلة انتقالية يتم من خلالها إعداد دستورٍ جديد، أعلنت الدول الإقليمية والدولية النفير العام بعد تطبيق هذه الصيغة بحق سوريا حتى يحقق كل طرف أطماعه السياسية والاقتصادية.
وحول مستقبل سوريا اجتمع بوتين وترامب في 2017م، وأكدا على المحاصصة الطائفية والعرقية وإلغاء هوية العيش المشترك لشعوب سوريا واستبدالها بهويات طائفية وقومية، وأكد لافروف على هذه الصيغة فيما بعد من خلال دستور روسيا الجديد الخاص بسوريا، كل هذه التوافقات الدولية والإقليمية هي خطوط رئيسة لإيجاد حل سياسي للسوريين يضمن حقوق الكل، لكن ونتيجة مقايضات سياسية واقتصادية على ضوء الربح والخسارة على الأرض تبدَّلت التحالفات الدولية والإقليمية (لا صديق دائم ولا عدو دائم) هذا من جهة، ومن جهة أخرى لعبت موسكو دور الوسيط (السمسار) في حلب والجنوب السوري بين إيران والنظام من طرف، وبين أمريكا وإسرائيل من طرفٍ آخر.
على ضوء ما تقدَّم لا تعمل واشنطن على تغيير جذري في الخارطة الجغرافية السورية بشكلٍ كامل، بل تعمل على بناء جغرافية جديدة في مناطق نفوذها والحفاظ على الهيكلية القديمة في بقية سوريا، كون الشمال السوري بات واقعاً حقيقياً لا يمكن تجاهله في المنظور السوري القريب، رغم ذلك لا يمكن أن نستثني أمريكا من اللعب سياسياً على كل الأطراف، فحين أعلن ترامب عن انسحاب أمريكا من سوريا لم يأت تصريحه جزافاً، بل كان بمثابة دق جرس بدء عملية مقايضة من المال السياسي السعودي، وأكد ولي العهد السعودي في حديثه مع مجلة (تايم) التأكيد على الإدارة الأمريكية عدم الانسحاب من سوريا، فرد ترامب (تريدون منَّا البقاء فعليكم بالدفع).
الجانب الروسي يحذو حذو عدوته في اصطياد أسواق المقايضات السياسية والاقتصادية، فقبل الهجوم التركي على عفرين بأيامٍ قليلة، سحبت قواتها ومستشاريها من عفرين، هذا الانسحاب لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة تفاهمات ومقايضات في الكواليس، والسؤال الأهم من هذه التقاطعات قبل احتلال عفرين، هل هو استنزاف لقوة واقتصاد تركيا؟ أم جس نبض أمريكا وتبيان موقفها من الكرد كحليف، أم أنها بوابة للتقارب بين تركيا وسوريا برعاية روسية وإيرانية، بكل الأحوال هي خلطة سياسية جديدة في الأوراق السياسية والعسكرية لعموم سوريا والمنطقة والعودة للمربع الأول.
درعا ضحية المقايضات