لم يكن يتخيل أحد، أن 13 مقاتلًا ومقاتلة، سطروا بأرواحهم ملحمة سرزوري، التي هي من أعظم ملاحم النضال في تاريخ الكرد، والتي شكلت انعطافة تاريخية ليس في نهاية حقبة داعش في المنطقة فحسب، بل لأنها تجسيد لإرادة لا تنكسر بوجه الظلم، ولتصبح نموذجاً لتعاضد الكرد الذي تحتذي به الأجيال القادمة في كل زمان ومكان.
تقع قرية سرزوري شرقي كوباني بـ 37 كيلومتراً على طريق كري سبي. وبرغم صغر حجمها، لكنها تتمتع بموقع استراتيجي، سعى داعش من خلالها تقسيم الجبهة الجنوبية لكوباني وتسهيل احتلال القرى الشرقية، إضافة إلى إبعاد مقاتلي ومقاتلات YPG وYPJ عن الحدود مع باكور كردستان (شمال كردستان)، وهو ما يعني فتح ممر عسكري لدعم لداعش، مما جعل السيطرة على قرية سرزوري مهمة استراتيجية لداعش.
قرار حاسم لمواجهة داعش
بدأت القصة باستنفار مرتزقة داعش بكل جحافلها لاحتلال مدينة كوباني التي تعني لها مد يدها إلى مناطق الجزيرة ومعقل رئيسي للكرد في الجهة الشرقية، الذي تعتبرهم المرتزقة ملاحدة ما يعني لها مزيد من السلب والنهب والسبايا، كما حدث في شنكال.
في ليلة 15 أيلول من عام 2014، هاجم داعش عدة قرى استراتيجية من بينها سرزوري، في خطوة أراد منها محاصرة كوباني من ثلاثة جوانب. قبل ذلك، اندلعت معارك شرسة في قرى تاليك، وجبل الفرج ودركومان، وسرزوري، تكبد خلالها خسائر فادحة رغم استخدامها لآلاف المقاتلين والآليات الثقيلة.
اتخذ مقاتلو ومقاتلات وحدات حماية المرأة والشعب بقيادة “رودي عفرين” وبيمان تولهلدان” قراراً حاسماً بعدم السماح لمرتزقة داعش بالعبور إلا على أجسادهم مع وصول داعش إلى قرية سرزوري، بينما طائرات استطلاع الاحتلال التركي تحلق على الحدود لمراقبة تحركات المقاتلين، في حين كانت الأنظار متجهة إلى الجبهة الشرقية، التي قد تغير مجرى الحرب مع استمرار تحشيد داعش للهجوم.
المقاومة حياة
أدرك مقاتلو ومقاتلات وحدات حماية المرأة والشعب، بأن سقوط قرية سرزوري يعني مذبحة للمدنيين على يد داعش، لذا كان عليهم مواجهة دبابات ومدرعات داعش بأسلحتهم الخفيفة، مصممين على القتال حتى آخر قطرة من دمائهم، حيث كانت هذه المقاومة امتداداً لمقاومة القرن في كوباني.
يرى الرئيس المشترك لهيئة البيئة في مقاطعة الفرات، عارف بالي، والذي كان شاهداً على تلك الملحمة أن، “العلاقة بين مقاومة سرزوري ومقاومة كوباني، هي امتداد لثقافة المقاومة الممتدة من مقاومة سجن آمد بشعار المقاومة حياة وصولاً إلى يومنا هذا”.
ويشرح بالي لصحيفتنا، أن: “تحركات مقاتلي وحدات حماية المرأة والشعب في مدرسة سرزوري كانت رهن احتلال كوباني، فأي ضعف كان سيساهم بدخول المرتزقة واحتلالها، حيث كانت مقاومة كوباني تجسيداً لوفاء الشهداء في سرزوري، وانتصار كوباني تحقق بفضل الروح البطولية التي تجلت في مقاومة سرزوري. استذكار مقاومة سرزوري يأتي كبداية لمقاومة القرن عندما نقول إن مقاومة كوباني هي مقاومة القرن، فإننا بالإمكان وصف مقاومة سرزوري بداية لمقاومة القرن”.
أما الرئيس المشترك لجهاز الرقابة العامة لشمال وشرق سوريا أحمد شيخو، والذي عايش تلك المقاومة كأحد أبناء المنطقة، فقد تحدث في لقاء مع صحيفتنا عن دور الشعب في المقاومة، حيث أشار إلى المشاركة الشعبية في تلك المقاومة، وكيف لابن المنطقة أن يكون عسكرياً ويدافع عن أرضه كما المقاتل العسكري بأن: “الشعب لعب دوراً بارزاً في مختلف المجالات، خاصة المجال العسكري، حيث كانت (لجان الحماية الشعبية) حاضرة في جبهات القتال بشكل أكبر من القوات العسكرية. والدليل الأبرز على ذلك، أن أول شهيد في مقاومة كوباني بتاريخ 20 تموز 2013 كان الشهيد محمود، وهو مدني من لجنة الحماية في مجلس بوتان شرقي”.
ومنذ أن حوّل داعش مدينة الرقة إلى عاصمة له خاضت مدينة كوباني حرباً طويلة ضده استمرت زهاء 11 شهراً، وواجهته مقاومة عنيفة أمام شتى أنواع الهجمات الوحشية ضراوة، في ظل تصدي بطولي من مقاتلي ومقاتلات وحدات حماية المرأة والشعب لاسيما مساندة الشعب من خلال تقديم العون لهم في كل شيء، رافعين شعار “لا حياة من دون أرضنا”.
دور الشعب بمساندة المقاومة
أدرك الكرد أن خطر داعش لن يمر مرور الكرام، وأنه سيفعل بهم مثلما فعل بهجماته الوحشية على مناطق روج آفا وشنكال. وعندما حوصر المقاتلون في المدرسة ونفدت ذخيرتهم، قال قائدهم، رودي عفرين، في اتصال مع قيادته: ~سنقاوم حتى النهاية، ونعلم أننا سننال الشهادة، لكن طريقنا سيستمر}. بعد ذلك، لجؤوا إلى العمليات الدفاعية، واستشهدوا جميعاً بكرامة وشرف.
واستذكر شيخو تفاصل الدعم الشعبي بفئاته: “قدم الشعب في ذلك الوقت العديد من الخدمات والإمكانات والتبرعات. كانت الأم تودع أبناءها للذهاب إلى الجبهات بالزغاريد وتستقبل جثامين الشهداء بالزغاريد. كان الأب يشارك أولاده القتال في الجبهات. والأكثر غرابة حتى المشاكل العشائرية، في ذلك الوقت توقفت وعقدوا هدناً مؤقتة وحاربوا جنباً إلى جنب في الخندق نفسه بدلًا من محاربة بعضهم”.
ومن زاوية أخرى أدى استشهاد مجموعة المقاتلين والمقاتلات في مدرسة سرزوري إلى استمرار مقاومة كوباني؛ ما جعل الكرد في مختلف كردستان يتوحدون ويقفون صفاً واحداً. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، امرأة كردية تركت أطفالها الأربعة في رعاية جدتهم، وحملت سلاح المقاومة قائلة: ~هدفي أن ينعم أطفالي بالحرية}.
مقاومة سرزوري وحّدت الكرد
بعد ذلك، أُعلن النفير العام، فتوافد شبان وشابات كرد من أجزاء مختلفة من كردستان للانضمام إلى صفوف المقاومة. كما انضم لمقاتلي وحدات حماية المرأة والشعب، بعض فصائل الجيش الحر الوطنيين، أمثال جبهة الأكراد، وشمس الشمال وثوار الرقة، فضلاً على مجموعة من 150 من بيشمركة باشور كردستان ليدافع الجميع عن شرفهم وكرامتهم.
وفي السياق، يقول بالي: “أسهمت مقاومة سرزوري في توحيد صفوف الكرد في تلك المنطقة الجغرافية، حيث قدم الكرد من مختلف أجزاء كردستان مقاومة بطولية. كذلك من خلال هذا الصمود، نجحوا في تعزيز وحدة الصف الكردي خلال معركة كوباني التي تحققت بفضل تضحيات الشهداء من أبناء الشعب الكردي القادمين من مدن وقرى كردستان”.
وتابع: “دفاع الكرد عن أرضهم بأجزاء كردستان الأربعة إزاء مدرسة سرزوري كان بدافع البقاء أو الموت شهداء لذلك عندما يتعلق الأمر بالأرض، تكون التضحيات على قدر قدسيتها لأن الجغرافية، التي ينتمي إليها الإنسان تستحق كل فداء، وهذا ما جسدته مقاومة سرزوري، حيث كان عنوانها التضحية في سبيل الأرض”.
سرزوري كانت نهاية لداعش
شكلت مقاومة سرزوري نقطة تحول تجاه معركة كوباني ومثّلت بداية النهاية لسيطرة داعش في المنطقة، فعدَّ بالي بأن: “مقاومة سرزوري مثلت بداية لنهاية مرتزقة داعش في سوريا، حيث كانت الكلمات الأخيرة لثلاثة عشر مقاتلاً من وحدات حماية المرأة والشعب كفيلة بهزيمة داعش بكل دقيقة طيلة مدة المعركة الممتدة من مدرسة سرزوري وصولاً لتاريخ ٢٦/١ /٢٠١٤”.
وأردف: “المقاومة أدت إلى كسر شوكة داعش في تلك المقاومة وإعلان النفير من القائد آبو بأن على الكرد في أنحاء كردستان التوجه إلى كوباني والانضمام إلى مقاومة القرن”.
واستطرد: “مقاومة سرزوري وكوباني كانت العامل الرئيسي بهزيمة داعش وداعمها الاحتلال بمختلف مناطق شمال وشرق سوريا. لهذا السبب، نجد أن داعش ما زال يحرك خلاياه النائمة ويستهدف المدنيين في المنطقة، بالإضافة إلى استهداف نقاط قوات سوريا الديمقراطية”.
دور الاحتلال بدعم داعش
لعب الاحتلال دوراً غير مباشر في دعم مرتزقة داعش خلال مقاومة سرزوري، حيث سمح الاحتلال بمرور المرتزقة والأسلحة عبر حدودها إلى مناطق سيطرة داعش: “الاحتلال التركي من أهم داعمي داعش للهجوم على كوباني، فكان يتلقى الدعم اللوجستي بشكل كامل، والهدف توجيه ضربة لمشروع الأمة الديمقراطية”.
وبيّن هدف الاحتلال من دعمه لمرتزقة داعش: “الاحتلال يسعى بشكل منهجي لإفشال مشروع الإدارة الذاتية، باعتباره نموذجاً ديمقراطياً وتشاركياً يهدد مصالحه، لذا يسعى لاحتلال مدن استراتيجية مثل: عفرين، وكري سبي، وسري كانيه، بهدف ضرب استقرار المنطقة، وتفكيك البنية الإدارية والمجتمعية، التي أقامتها الإدارة الذاتية”.
ولفت إلى مساعي الاحتلال لليوم باستهداف الرموز الوطنية والمناضلة في كوباني، التي شاركت في المقاومة وقت ذاك: “الاحتلال يركز هجماته لاستهداف المناضلين، الذين شاركوا بمقاومة كوباني، باعتبارهم رموزاً للصمود والمقاومة ضد الإرهاب، كما يوجه ضرباته للعوائل الوطنية سعياً لتفكيك النسيج الاجتماعي والضغط على المجتمع، الذي دعم مشروع الإدارة الذاتية، وساهم بحماية المنطقة من الهجمات”.
تنظيم المجتمع سبيل تحقيق النصر
في مقاومة سرزوري، لعب تنظيم المجتمع دوراً حاسماً في تحقيق النصر، فالتنسيق بين مختلف فئات الشعب وتوزيع المسؤوليات بين المدنيين والمقاتلين عزز قدرة المجتمع على الصمود أمام وحشية داعش، حيث فسّر شيخو سبب انتصار كوباني على الإرهاب، رغم قلة إمكاناتها، هو “بتنظيم المجتمع نفسه لحماية نفسه حيث إن كل حي في المدينة وكل قرية كان لها لجنة خاصة بالحماية. هذه اللجنة، إضافة إلى عملها في الحماية، كانت تزود الجبهات بالعدد الكافي من المتطوعين الشعبيين للقيام بالواجب الدفاعي”.
وتابع: “مقاومة كوباني، التي بدأت في 20/7/2013 عسكرياً، كانت قد بدأت تنظيمياً منذ بداية الأزمة السورية في 15/3/2011، هو خير دليل على أهمية الحماية الجوهرية للمجتمع ليس فقط من الناحية العسكرية، وهذا ما لم يتحقق إلا بتنظيم المجتمع الذي يقع على عاتق إدارة الجبهة بتنظيم المجتمع حتى يصل إلى درجة إدارة نفسه وحماية نفسه”.
واختتم الرئيس المشترك لجهاز الرقابة العامة لشمال وشرق سوريا أحمد شيخو حديثه: “كل لحظة في المقاومة كانت شاهدة على بطولات مدرسة سرزوري التي جسدت مثالاً للمقاومة المنظمة وروح التضحية. هناك العديد من الشواهد التي تؤكد هذه الروح من تجربة مقاومة كوباني، فيمكن استنتاج أن التنظيم المجتمعي الجيد يجعل المجتمع غير قابل للهزيمة، رغم الصعوبات، فإن النصر سيكون حتمياً”.
تجدر الإشارة أن المجموعة، التي استشهدت في مدرسة سرزوري، وقدمت مقاومة بطولية هم الشهداء: (رودي عفرين، وبيمان تولهلدان، وباران باور، وجوان هفال، ورستم جودي، وكليستان قنديل، ومزكين جودي، وهبون كوباني، وبرجم جودي، وبرفين جيا، وبرخدان باطمان، وسرخبون غريب، وباور سيبان).