تعتلي شالة -إحدى أقدم المدن التاريخية بالمغرب- ربوة تطل على نهر أبي رقراق، تثير بغموضها وشموخها فضول الزائرين، وتفخر بما تحويه أعماقها من أسرار الغابرين، فهي معبر الحضارات ومقبرة الملوك والشهداء وخلوة الصالحين والعلماء، وأيضاً معقل الأساطير والحكايات. خضع هذا الموقع التاريخي خلال السنوات الأخيرة لأعمال ترميم متفرقة، نقلته من حالة الإهمال والخراب إلى واحد من المزارات التي يحرص السياح من داخل المغرب وخارجه على استكشافها.
وبلغ عدد زوار شالة سنة 2019 م حوالي 240 ألف زائر، بحسب ما أوضح للجزيرة نت محافظها مصطفى الرمضاني، متوقعاً ارتفاع هذه الأعداد بعد ترميم باقي معالم الموقع وإحداث مرافق جديدة.
معبر الحضارات
ترجع العهود الأولى لموقع شالة إلى الفترة الفينيقية، أي القرن السابع أو السادس قبل الميلاد، وكان موقعها الاستراتيجي بين النهر والبحر (أبي رقراق، والمحيط الأطلسي) دافعاً أساسياً لتشييد المدينة وإعمارها، لتربط بين مدينتي ليكسوس (العرائش) وموكادور (الصويرة).
وبعد الفينيقيين، صارت شالة عاصمة القرطاجيين، وبلغت شأوا أيام الرومان وتضاءلت أهميتها زمن الوندال، ثم استعادت مجدها على طول العهد البيزنطي والقوطي.
وفتح عقبة بن نافع المدينة أيام خلافة يزيد بن معاوية عام 62 للهجرة، فاعتنق أهلها الإسلام ثم ما لبثوا أن ارتدوا إلى المسيحية، وتكرّر الحال عندما فتحها مرة ثانية موسى بن نصير سنة 90 للهجرة في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، إلى أن دخلها المولى إدريس مؤسس أول دولة إسلامية مستقلة في المغرب الأقصى سنة 172 هجرية (القرن الثامن الميلادي). وحدود مدينة شالة خلال الفترة الرومانية ما زالت مجهولة إلى الآن، وتتجاوز حدود الأسوار المحيطة بها التي بنيت خلال حكم الدولة المرينية للمغرب في القرن الثالث عشر الميلادي.
حفريات تكشف الأسرار
تركت كل حضارة بصمتها في المدينة، وخلفت آثارا ظلت مخبأة تحت الأرض لقرون، إلى أن أماطت اللثام عنها الحفريات التي أجريت بداية القرن العشرين. وكانت أولى تلك الحفريات عام 1929م تحت إشراف العالم بوريللي والأميرة المصرية خديجة شقيقة الملك فاروق، وقلبت هذه الحفريات حسب المعتقدات السائدة حول ما اعتبر مسجداً تاريخياً، ليتم تعريفه بعد تلك الحفريات بوصفه مدرسة بناها أبو سعيد عثمان المريني.
واستمرت الحفريات في الثلاثينيات والخمسينيات، لتكشف عن معالم مدينة رومانية متكاملة تتكون من حمام وساحة (الفوروم) ومبنى البازيليكا (المحكمة) وقوس النصر والحي الحرفي ومعبد وأقواس ضخمة وتماثيل.
غير أن أهم الحفريات في الموقع كانت تلك التي أشرف عليها العالم المصري عثمان إسماعيل نهاية الخمسينيات، وضمنها في كتابه “تاريخ شالة الإسلامية”، وهو أول مؤلف بالعربية عن تاريخ مدينة أثرية مغربية عريقة.
وأثرت حفريات عثمان المعارف التاريخية حول المرينيين، إذ كشفت عن معالم ظلت مطمورة تحت الأرض مثل المسجد الإدريسي الذي بُني على أنقاضه المسجد المريني، وقبور الملوك المرينيين وزوجاتهم، وقبور شهداء طريفة الذين استشهدوا في إحدى المعارك التي خاضها المرينيون في مواجهة المسيحيين بالأندلس.
وما زال موقع شالة الأثري يختزن الكثير من الأسرار، إذ تظل الفترة ما بين بداية القرن الخامس ونهاية القرن الثالث عشر الميلادي مرحلة غامضة قد تكشف الحفريات المقبلة عن بعض خباياها.
خلوة العلماء والصالحين
وكانت شالة أيضاً محل خلوة مجموعة من رجالات التصوف والعلم، والتجأ إليها الشاعر والفيلسوف لسان الدين بن الخطيب الملقب بذي الوزارتين، وأقام فيها مدة تزيد على السنتين، وكتب من خلوته رسالة للسلطان أبي سالم المريني عام 761 للهجرة، وضمنها قصيدة مشهورة مطلعها:
مولاي ها أنا في جوار أبيك .. فابذل من البر المقدر فيكَ
أسمِعه ما يرضيه من تحت الثرى .. والله يسمعك الذي يرضيكَ
ويقال أن ابن خلدون صديق ابن الخطيب زار المدينة عندما كان جزءاً من البلاط المريني، كما دُفن فيها كثير من العلماء والصالحين وما زالت أضرحتهم تبوح بمرورهم واختلائهم في المكان.
محل الأساطير
إلى جانب حوض النون، تجلس السيدة فاطمة محاطة بالقطط وقربها طبق يحتوي بيضاً مسلوقاً. فاطمة هي المشرفة على الحوض، تنظفه وتطعم أسماك النون (الأنقليس) وتجد نفسها بين الحين والآخر في حوار مع زوار المكان تشرح لهم الأساطير المحيطة به. حوض النون الذي كان في الأصل قاعة وضوء لمسجد أبي يوسف، نُسجت حوله حكايات خرافية وأساطير، إذ يعتقد البعض أن رمي النقود فيه والاستحمام بمائه وإطعام سمكه يحقق الأماني بالزواج والإنجاب. وأضافت تلك الطقوس على شالة طابعاً روحانياً ومقدساً في الذاكرة الشعبية، حتى سميت “للا شالة” احتراما للمكان الذي يضم رفات الأولياء الصالحين.
ترميم يُعيد الحياة
وأعادت أعمال الترميم التي شهدتها القصبة الحياة لها بعد عصور من الخراب والإهمال والنهب. وبدأت أولى عمليات الترميم الموثقة خلال فترة الثمانينيات بحسب ما أوضح للجزيرة نت محافظ موقع شالة الأثري مصطفى الرمضاني، والذي يضيف أن العملية الثانية تمت ما بين 2016م و2017م وشملت ترميم السور المريني والمدخل الرئيسي.
والعام الماضي، استكملت أشغال تجهيز موقف للسيارات وتهيئة مسار خارجي وإنارة الأسوار، وقبل خمسة أشهر انطلقت عملية إعادة تأهيل وترميم المقبرة المرينية والمسجد، وذلك في إطار المشاريع الكبرى التي تشهدها الرباط مدينة الأنوار والعاصمة الثقافية للمملكة.
وستلي هذه العملية أعمال ترميم المدرسة وصومعتها والحمام المريني والجزء الروماني من الموقع، ويقول إن هذه العمليات تدخل في سياق اهتمام وطني بتأهيل المآثر التاريخية ورد الاعتبار لها والوعي بدورها في التنمية الاقتصادية والثقافية للبلاد.