سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

مطماطة التونسية.. معمار متميز عبر الزمن

إعداد/ هايستان أحمد –

على امتداد عقود من الزمن، استطاع الإنسان أن يرسم ملامح وجوده ويبرز قدرته على تسخير الطبيعة مهما كانت صعبة وقاسية ليصنع ظروفًا ملائمة للعيش والسكن والإعمار، ليخلف بذلك أثرًا معماريًا مميزًا وهو ما سنشهده ونحن نكتشف مدينة تحت الأرض، في إحدى مدن الجنوب التونسي.
على بعد 450 كيلومترًا من العاصمة التونسية وفي قلب صحراء الجنوب الملتهبة بحرِّ ووهج الشمس الساطعة والحارقة، تجذبك لافتة مدينة مطمامة، مدينة الكهوف والقصور تحت الأرضية، هذه القرية التي تقع في الجنوب الشرقي التونسي، غرب مدينة “قابس” وتعرف بـ”مطماطة القديمة”، التي تبعد نحو 42 كيلومترًا غربي “خليج قابس” و60 كيلومترًا جنوبًا عن ولاية “مدنين”.
نماذج فريدة من نوعها
في بلدة مطماطة الجبلية توجد نماذج فريدة من البيوت المحفورة تحت الأرض، وهي أشبه بالكهوف، وتعود إلى تراث المجتمعات الأمازيغية التي سكنت هناك، وما تزال عدة أسر تتشبث بها. هذه البيوت التي تضم قاعدة دائرية وعدة غرف محفورة في الصخر تقي ساكنيها من شدة الحر في فصل الصيف ومن الرياح في فصل الشتاء، وهي تقع في منطقة تنتشر فيها أشجار النخيل وبساتين الزيتون على مسافة 365 كلم جنوب العاصمة التونسية.
هذه البيوت تختلف اختلافاً كبيراً عن غيرها، وإن كانت توجد إنشاءات مشابهة لها على الجانب الآخر من الحدود في ليبيا إلى الجنوب الغربي. وفي أنحاء أخرى من المنطقة توجد بيوت ومخازن منحوتة في الصخر فوق الأرض. وبينما هجرت أسر كثيرة بيوتها المحفورة تحت الأرض لأسباب مختلفة، لا يبدو بعض من بقوا فيها مستعدين للتخلي عنها. ويعتمد سكان مطماطة في معيشتهم على زراعة الزيتون والسياحة، وقد أصبحت البلدة وجهة منشودة بعد تحويل أحد كهوفها إلى فندق استُخدم في تصوير فيلم “حرب النجوم” خلال السبعينيات.
هندسة معمارية تُجاري المناخ
توجد الكثير من المدن التاريخية على امتداد الوطن العربي وجميعها تتميز بخصائص معمارية لا نجدها في غيرها، إلا أن مدينة مطماطة في الجنوب التونسي تبقى من أكثر المدن تميزاً وغرابة بحكم طابعها المعماري الذي عرفت به على امتداد العصور وأخذت اسمها من إحدى القبائل البربرية التي استوطنت مناطق شاسعة من تونس قبل الفتح الإسلامي. وقد أصبح النمط المعماري المختلف لهذه المنازل المبنية داخل الكهوف ذا دور هام في جذب السياح، وهو أمر يحرص عليه سكان المدينة، من خلال حسن استضافة الزائرين.
ففي الوديان القاحلة بالمنطقة الجبلية في جنوب تونس يعيش بعض السكان منذ قرون في بيوت تحت الأرض توفر لهم الوقاية من شدة الحر في فصل الصيف ومن الرياح في فصل الشتاء. وعرفت مدينة مطماطة باسمها البربري “اتوب” وبنيت منازلها في كهوف مكونة من غرف منها ما يستخدم لحفظ المؤونة ومنها ما يستخدم للنوم وتربط بين ذلك جميعاً ممرات أرضية، وكذلك تربط بين أفنية الكهوف سلالم محفورة في الأرض. والمثير للدهشة أن هذه الخصائص المعمارية الفريدة قد أوجدت للمدينة آلية تكييف طبيعية تمنحها الرطوبة في الصيف والدفء في الشتاء.

 

 

 

 

 

 

الروايات والحكايات حول المدينة
حفرة كبيرة في باطن الأرض، وحول محيط هذه الحفرة توجد كهوف محفورة بشكل هندسي منمق، وقع استخدامها كغرف أو أماكن لتخزين الحبوب والقمح والشعير وبيوت “المونة” تحسبًا لكل طارئ، كما توجد بعض المنازل التي تضم حفرًا متعددة ويربط بينها خندق أو ممر تحت الأرض يسمى “السقيفة”، والظاهر لعين الرائي أن  كل منزل مكون من باحة منزل رئيسية واسعة تزينها الرسوم، وتتفرع منها حفر أخرى هي بقية غرف المنزل. ومن الداخل فإن هذه البيوت الصخرية مدهونة جدرانها باللون الأبيض الخالص وهي مادة “الجير”، ومن مميزات هذه الغرف المنحوتة في الصخور والجبال الصحراوية بالإضافة إلى المنازل، يوجد في مدينة مطماطة كذلك “قلعة قصر جمعة الشامخة” والتي تطل على المنطقة الداخلية للمدينة تليها الانحدارات الصخرية القاسية.
تقول الروايات والحكايات إن هذه المدينة تحت الأرض سميت مدينة مطماطة نسبة إلى قبيلة أمازيغية قديمة، لم تستطع أن تقاوم جحافل بني هلال وهي من أشهر الهجرات العربية إلى شمال إفريقيا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وتعرف “بالهجرة الهلالية” في التراث الشعبي العربي، فيما يصفها ابن خلدون بانتقال العرب إلى إفريقيا،  وتعرف كذلك “بالهجرة القيسية” نسبة إلى أن أغلب القبائل المهاجرة تندرج تحت الفرع القيسي من العرب العدنانية، وكانت الجازية الهلالية من الفاعلين الأساسيين في تغريبة بني هلال المشهورة.
المحافظة على الشكل المعماري
واستقرت هذه القبائل في شمال إفريقيا، وشاركت في الحروب والفتوحات والصراعات السياسية والعسكرية التي قامت في المنطقة وفي حوض المتوسط، وكان لها الأثر الحاسم في تعريب شمال إفريقيا. وقد عجزت هذه القبيلة البربرية على التأقلم مع بني هلال، فهاجر أهلها إلى هذه المنطقة الوعرة، من مدينة قابس واتخذوا من باطن الأرض والصخور الرملية سكنًا لهم فحفروا مأواهم في باطنها تفاديًا لخطر العدو، وقد لجأوا إلى استخدام الأنفاق والسلالم والتي تُزال عند الشعور بالخطر، للوصول إلى هذه المدينة الكهف.
وإلى يومنا هذا رغم زحف السنون والتحولات المناخية والتضاريسية وانتقال العديد من السكان للسكن في مطماطة الجديدة، لا تزال هذه الكهوف والمنازل البربرية تحافظ على ذات الطابع المعماري الذي يكشف قدرة الكائن البشري على التكيف مع الصعوبات القاهرة والصعبة في أي زمان ومكان.