الطفل محمد قطيش يحاول أن يوضح لأطفال بلاده أنه بإمكانهم عبر مواد بسيطة أن يصنعوا بيوتهم وحاراتهم من خلال مجسمات صغيرة تحفظ صورة مدينتهم بذاكرتهم.
الخيال يصلح الدمار
ليست تداعيات الحرب دائما سيئة، فأحياناً قد يكون جانب منها مصدراً لاكتشاف الموهبة وسبباً في انتشارها. فمحمد قطيش واحد من الأطفال السوريين الذين عايشوا الحرب في مدينة حلب، واضطر لاحقاً إلى النزوح قسراً منها. لكن المدينة بشوارعها وأبنيتها لم تفارقه رغم البعد والترحال المتكرر، وها هي اليوم تجول العالم في رحلة تفاعلية عبر الواقع الافتراضي من خلال المجسمات التي صنعها وتخيلها.
محمد قطيش طفل سوري عايش الحرب في مدينة حلب المنكوبة، لفت نظر الصحافة والإعلام مذ كان صغيراً بسبب موهبته الفنية الاستثنائية التي ساهمت الحرب ذاتها في تكريسها، كان موهوباً بالفطرة يرسم بشكل عفوي، لكنه بعد مغادرة مدينته حلب لاجئاً، بدأ مرحلة جديدة في عالم الرسم، اتجه خلالها إلى تصميم المجسمات التي حملت صوراً لمدينته وشوارعها وأبنيتها.
يقول قطيش “بدأت بالرسم منذ مرحلة الروضة أي ما قبل مرحلة الدراسة الابتدائية الأساسية، والدي كان الداعم الأساسي لي، يأتيني دوماً بمستلزمات الرسم من الورق والألوان وغيرها، ثم تحولت تلك الموهبة وتطورت، فبدأت بصنع المجسمات الهندسية لألعابي، تحديداً للدببة التي كنت أملكها، فأصنع لها بيوتاً من الورق ولكن بشكل بدائي جداً، ودون أدنى حرفية”.
بناء عبر الخيال
فكرة المجسمات في حد ذاتها ليست جديدة ولا حتى استثنائية، فعبر نظرة سريعة على الشبكة العنكبوتية سنحظى بعشرات الورشات والفيديوهات التي تنشر أعمالاً مختلفة ومتفاوتة عن هذا الفن البسيط على صعيد الأدوات، والمبهر والرائع على صعيد التنفيذ، محمد قطيش نفسه قد اطلع على البعض منها وحصل على الكثير من الأفكار، خاصة ما يتعلق بمجسمات الأبنية الحديثة، يقول “أول مجسم قمت بتنفيذه كان حول مدينة حلب الحديثة، أي حلب ما بعد الحرب، حاولت في ذلك المجسم أن أستمد شكل المباني من المدن المشهورة، بعد أن أضفت عليها بعضاً من معالم حلب الرئيسية كالقصر البلدي وغيره”.
لم يقدم قطيش مجسماته بشكل عفوي وفني فقط، بل كانت تلك المجسمات وسيلته الوحيدة لتحفظ ذاكرته تلك المدينة التي غادرها مجبراً، وليعيد بناءها عبر الورق والألوان والصمغ، بطريقة احترافية تخيلية وجمالية.
لم تكن الحرب وحدها سبباً في انتشار موهبته، بل كانت أيضاً السبب المباشر لرحيله مع عائلته، إلى خارج أسوار مدينة حلب، إلى تركيا، وتحديداً مدينة غازي عنتاب، هناك تابع هوايته في تصميم المجسمات فقام بتصميم مجسم للمسجد الذي بقي عالقاً في ذاكرته، وتدريجياً بدأ يوسع من عمله فأضاف الشوارع وبعض الأبنية، كل ذلك بطريقة تخيليه فنية أكثر منها واقعيه، يقول قطيش “أردت أن أجسد حلب في المستقبل، كما أريدها أن تكون”.
كما قام بإنشاء قناة على يوتيوب نشر من خلالها بعض الفيديوهات التعليمية عن صناعه المجسمات، كل ذلك بجهد شخصي حيث قام بتصويرها وتنفيذها بنفسه يقول “كان الهدف من القناة، تعليم الأطفال طريقة صناعة النماذج”.
حاول قطيش عبر تلك الفيديوهات أن يوضح للأطفال أنه بإمكانهم عبر مواد بسيطة جدا أن يصنعوا بيوتهم وحاراتهم وأن يحفظوا ويحتفظوا عبر تلك المجسمات بذاكرتهم عن مدينتهم، لكن القناة توقفت لاحقاً عندما غادر تركيا متجها ليستقر في ألمانيا.
الأعمال التفاعلية
كانت فرصته الذهبية حين التقى بالمنتج البريطاني أليكس بيرسون، الذي سبق وأن تابع الفيديوهات التي نشرت عنه وأعجب بها، وقرر أن يجعلها تفاعليه، يقول قطيش “بدأت علاقتي بالمنتج البريطاني أليكس برسون من سوريا، بعد أن نشرت الصحافية وعد الخطيب الفيديوهات التي صورتها عني، وشاهدها أليكس وأعجبته وتأثر بها كثيرا، ولاحقا أصبح صديقي على الفيسبوك وبدأنا نتواصل عبر الماسنجر، بداية كنت أعاني من صعوبة التواصل معه لأنني حينها لم أكن أتقن الإنجليزية بشكل جيد، ومن ثم تعمقت علاقتي معه خاصة بعد أن سافرت برفقة العائلة، وكان أول لقاء بيننا حين زارني في مدينة غازي عنتاب”.
وأليكس بيرسون منتج فني للأعمال الإبداعية، ومهتم بشكل خاص بالأعمال الفنية التفاعلية المرتبطة بالواقع الافتراضي، وكانت أولى تجارب التعاون بين قطيش وبيرسون في تركيا، حيث قدم العرض الثلاثي الأبعاد في مدينة كهرمان مرعش، ضمن مخيمات اللجوء، حيث قام أليكس بتصوير المجسم وإدخاله إلى الكمبيوتر، ليصبح مادة رقمية صالحة للمشاهدة عبر النظارة الثلاثية الأبعاد، قدم المشروع بدعم من مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين في تركيا وكان الهدف الأساسي منه، مساعدة الأطفال لإعادة تصور بناء مدنهم المنهارة.
عن تلك التجربة يقول قطيش “كنت أكتفي بتصميم وتنفيذ المجسمات فقط، ولكن أليكس المهتم بالواقع الافتراضي، اقترح فكرة تحويل تلك المجسمات إلى موقع افتراضي، يمكن زيارته عبر تقنيات النظارة ذات الأبعاد الثلاثية، فصنعت له (ماكيت) مجسم عن مدينة حلب المستقبلية التي أتخيلها”.
ويرى أليكس أن “الواقع الافتراضي يعتبر مساحة للمبدعين لإغراق الآخرين في عالم تصميماتهم الخاصة، ويعتبر محمد قطيش واحدا من هؤلاء المبدعين والموهوبين الذين باستطاعتهم أن يعلموا الأطفال الآخرين، كيفية إعادة بناء مدنهم باستخدام الورق”.
لم تقتصر تلك التجربة على مخيمات اللجوء في تركيا، بل استمرت لاحقاً، حين نقل أليكس المجسم وعرضه في عدة دول ومدن أوروبية مثل النمسا والسويد وغيرهما، لكن قطيش لم يكن حاضراً ومرافقاً لها، حاولت تلك التصاميم التفاعلية، دعوة الزوار ليشاركوا افتراضياً في بناء حلب والتعرف على تاريخها.
كما تبنى أليكس مشروع محمد قطيش الذي أطلق عليه مستقبل حلب، وهو مشروع يحاول عبره نقل نشاطاته، سواء المتعلقة بالعالم الافتراضي، أو تلك المتعلقة بورشات تعليم الأطفال الرسم وصناعة المجسمات، عن ذلك المشروع يقول قطيش “أطلقت عليه هذا العنوان لأنه يمثلني بداية، ولإحداث التأثير على الأطفال الذين في سني، وكان الهدف الأساسي منه، إقامة ورشات للأطفال السوريين في كافة المدن السورية وليس فقط في مدينة حلب، الذين يحلمون بمدنهم المدمرة، بصورة متطورة، تمتلك التكنولوجيا”، عمل محمد في تلك الورشات مع العديد من الأطفال السوريين حول العالم، في محاولة منه لمساعدتهم على تخيل مدنهم التي غادروها.
موهبة الرسم وتنفيذ المجسمات لم تثنه عن متابعة دراسته، يقول قطيش الذي بلغ اليوم 15 عاماً “عندما غادرت سوريا إلى مدينة غازي عنتاب، كنت لا أزال في المرحلة الدراسية الابتدائية، تحديداً في الصف السادس، وكان قرار العائلة حينها التوجه إلى أوروبا، لكن الظروف حالت دون ذلك، وبقينا في تركيا لثلاث سنوات، تعلمت خلالها تابعت دراستي وأكملتها حتى وصلت إلى الصف التاسع (شهادة الإعدادية)، وحالياً بعد أن انتقلنا إلى ألمانيا، بدأت بدراسة اللغة الألمانية، لأتم دراستي وألتحق بعد ذلك بالجامعة لأدرس الهندسة المعمارية التي طالما حلمت بها”.
هذا وسيقوم قطيش بدءا من 15 آب الجاري، بعدة ورشات فنية عبر الإنترنت وتحديداً عبر برنامج زووم، وستشارك في تلك الورشات مجموعة من الأطفال حول العالم، من خلال تقديم الأبنية التي سيصممونها وسيتخيلونها عن بيوتهم التي تضررت جراء الحرب، لإضافتها لاحقاً إلى مشروع المدينة الافتراضية الجديدة، وسيكون بإمكانهم بعد ذلك الدخول إليها عبر تطبيق على الهواتف الذكية.