دجوار أحمد آغا
تسعى دولة الاحتلال التركي إلى تحقيق ما فعلته الدولة العثمانية في معركة جالديران بجر بعض الكرد إلى جانبهم لتحقيق أطماعهم، فيعاد سيناريو سيطرتهم على مناطق عدة في الشرق الأوسط، في حين تصطدم مساعيها مع حقيقة مقاومة الكرد في وجه مساعي الإبادة.
“في معركة جالديران الدائرة عام 1514 ضد توسع إمبراطورية السلالة الصفوية الإيرانية، كانت قوات الإمارات والقبائل الكردية أكثر من الإنكشاريين الموجودين في جيش السلطان ياووز سليم. وقد تُوّجت المعركة بالنصر على التحالف العثماني ـ الكردي (البروتوكول الموقع بين السلطان ياووز سليم وثمانية وعشريين بيكاً كردياً في أماسيا)، هذا التحالف المُبرم بزعامة إدريس البدليسي”.
وتعليقاً على ذلك ذكر القائد عبد الله أوجلان في مرافعته “القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية” في الصفحة 120: “إن تصرف الكرد هو واحد من العوامل المهمة، لبناء مستقبل مستقر وآمن، ليس للدول التي يسكنها مواطنون كرد وحسب، بل للشرق الأوسط بأكمله. لذا فمن المهم، أن نعرف الكرد، وأن نتفهم أهدافهم، وتوجهاتهم السياسية والمنهج، الذي يرغبون فيه”.
الوجود الكردي الأصيلأما الكاتب وديع جويدة في كتابه “الحركة القومية الكردية نشأتها وتطورها صفحة 19، في أشار إلى أصل الكرد: “الكرد من السكان الأصلاء في منطقة جبال طوروس وزاغروس، هذا القوس الطبيعي المتميز بوفرة المياه من خلال الينابيع والأنهار الخالدة (دجلة، الفرات) والبحيرات (وان، أورميه)، إلى جانب كثرة المغارات والكهوف الطبيعية والتي تُعدّ المسكن الأولي للإنسان. كما أن الغابات الكثيفة العذراء المليئة بالأشجار المثمرة ومختلف أنواع الفاكهة، تغطي معظم سهولها وجبالها. هذه المنطقة، التي تُسمّى “ميزوبوتاميا” يعني الموطن الأصلي للكرد وآبائهم وأجدادهم منذ القديم وحتى الآن. بنى الكرد إمبراطوريات، وممالك وحضارات عظيمة لا تزال آثارها ماثلة للعيان بعد مرور أكثر من 11 ألف سنة مثل (كري نافوكي) بالقرب من الرها في باكور كردستان”.
قدوم الأتراك ومعركة ملاذ كرد 1071م
السلطان ألب أرسلان من أسرة الأغوز السلجوقية، والحائز على لقب السلطان من الخليفة العباسي، كان يبحث عن حليف له في كردستان، كي يفتح أبواب الأناضول. كان يُبرم العلاقات مع الإمارات والقبائل الكردية القوية في عهدها استعداداً لمعركة ملاذ كرد 1071 م. عثر ألب أرسلان على ضالته في الدولة المروانية القوية، والتي اتخذت من ميافارقين (سليوان) عاصمة لها. عقد تحالف مع الدولة المروانية التي قامت بدورها بجمع العديد من قبائل المنطقة الكرد حيث أصبح تعداد قواتهم تُعادل قوات قبيلة السلاجقة. إن معركة ملاذ كرد لم تكن بين قوات المجموعة من الأنساب التركية ضد الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، بل كانت معركة متوجة بالنصر خاضتها أيضاً قوات القبائل والإمارات الكردية بكمّ يُعادل القوات التركية بأقل تقدير.
الواقع الكردي قبل المعركة
كانت الإمارات الكردية ذات شأن وقوة لا يستهان بها، وكان العديد من حكّامها قد رفعوا علم السلطنة مستقلين مما دفع بالمؤرخين إلى إدخالهم في عداد الملوك والسلاطين. من أشهرهم في ذلك الوقت حكّام آمد “ديار بكر”، والجزيرة (الدولة المروانية) التي استمرت 91 عاماً. حكّام الدينور وشهرزور (الدولة الحسنوية) التي حكمت 130 عاماً. حكّام اللر الكبير (الفضلوية). حكّام اللر الصغير (الجنكروى). الكرد كانوا بحاجة إلى حلفاء أشدّاء للتمكن من الحفاظ على وجودهم وتطويره في مواجهة الغارات الرومانية البيزنطية القادمة من الغرب والشمال. لذا كان الكرد يعولون في ذلك على الفرس والعرب ولكن مع قدوم السلاجقة الأتراك إلى المنطقة وسعيهم إلى الاستقرار فيها، اتفق الطرفان على مواجهة الإمبراطورية البيزنطية التي تشكّل خطراً عليهما.
الصراع الصفوي العثماني
الصراع الصفوي العثماني قائم على السيطرة والقوة. الطرفان كانا يسعيان إلى توسيع نفوذهما على حساب الآخر. الصفويون وفي عهد الشاه إسماعيل سنة 1507 تبنوا المذهب الشيعي مذهباً رسميّاً للدولة الصفوية، فكان للصفويين أطماع توسيعية في الأراضي التي تقع تحت سيطرة العثمانيين، الذين تبنوا بدورهم المذهب السني.
الصفويون حركة فكرية أيديولوجية قائمة على تبنّي المذهب الشيعي الذي بدوره يعتمد على التبعيّة أي (المُريد) فقد نظموا أنفسهم، وبنوا سياساتهم في 200 عام، فقد كانوا يسعون إلى إنشاء نظام (الشاه الشيعي) فالصفويون بعد انهيار الساسانيين كانوا يسعَون دائما إلى إرجاع نظام الشاه الصفوي، لكن بطريقة أخرى، وبأفكار معاصرة للزمن، لأنهم كانوا يرون أنّه النظام الأمثل لهم، للحفاظ على وجودهم. بينما العثمانيون؛ فقد كانوا يعدون أنفسهم أصحاب المذهب السنّي، وهم خلفاء المسلمين الحقيقيين بعد انهيار وسقوط الخلافة العباسية. كما أنهم تحت ستار الدين الإسلامي حققوا توسعاً كبيراً وبنوا سلطنة وصلت حتى أواسط أوروبا.
علاقة الكرد مع طرفي الصراع
لم تكن علاقة الكرد مع الصفويين علاقة جيدة، فالصفويون بعد وصولهم إلى السلطة كانوا ينشرون المذهب الشيعي في كل مكان يصلون إليه، حتّى أنهم ارتكبوا المجازر في بعض المناطق لهذه الغاية، وكان الكرد من السنة، لهذا لم تكن علاقة الكرد مع الصفويين جيدة. فهنالك بعض الرسائل في التاريخ تشير إلى أن الإمارات الكردية، وقتئذٍ كانت تراسل العثمانيين لأنهم سنة مثلهم، ويدركون خطورة الصفويين عليهم وعلى دينهم. الشاه إسماعيل الصفوي قام بإنشاء (اتحاد قزل باشا) أي جنود مرتبطين به عقائدياً ومعظمهم من الكرد والتركمان الذين على خلاف مع العثمانيين.
كان للكرد الدور الأكبر في رسم معالم هذه المعركة، فمن خلال تحالف الكرد مع أي طرف، سوف تترجح كفته ويحقق الانتصار. وبالفعل فقد استعان السلطان العثماني سليم بالملا إدريس البدليسي لتحقيق هذا التحالف. كان البدليسي من الشخصيات الدينية والأدبية المعروفة بين الإمارات الكردية، وكان مقبولاً من معظم الإمارات الكردية وقتذاك، وطلب منهم تشكيل اتفاق مع السلطان لمواجه الصفويين، وتشكيل اتّحاد الإمارات الكردية المتحالفة مع العثمانيين ضد الصفويين، إلّا أنّ إدريس البدليسي لم يكن يرى في السلطان العثماني خليفة المسلمين ليشكل ذاك الاتحاد، ولا حتّى الإمارات الكردية ترى ذلك، لهذا تمّ الاتفاق مع العثمانيين من خلال كل إمارة على حدة. وعلى هذا الأساس انخرط الكرد في معركة جالديران، بعضهم مع الصفويين عن طريق اتحاد قزل باشا، وبعضهم مع العثمانيين عن طريق إدريس البدليسي.
ما يجري الآن؟
ما يجري الآن لا يختلف كثيراً عما جرى أيام جالديران، فباعتقادي ليس العامل الديني هو السبب في تقارب الكرد سواء مع العثمانيين من جهة أو مع الصفويين من الجهة الأخرى، لكن هناك أمر في غاية الأهمية، وهو تشكيل الطرفيين طبقة من الكرد ترفض قيام كردستان، وتُفضّل البقاء تحت سيطرة الدول المحتلة والحاكمة على كردستان. هؤلاء الكرد لم يقطعوا علاقاتهم مع العدو المحتل، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فربطوا وجودهم ومصيرهم بالعلاقة مع تلك القوى المحتلة والحاكمة على كردستان. وما زالوا يسيرون على النهج نفسه من التبعية للعدو المحتل الغاصب، بل أن البعض منهم وصل به الأمر إلى محاربة بني جلدته إرضاء للمحتل وظناً منه أن العدو يأبه له، أو يحترم وجوده، لكنه لا يعلم أو يتناسى بأن عدو الآباء والأجداد لا يمكن أن يصبح صديق الأبناء.
أخيراً وليس آخراً
معركة جالديران 1514 وبنتيجتها توقيع اتفاقية قصر شيرين 1639 هما أهم الأحداث التاريخية في منطقة الشرق الأوسط، وتغيير خارطتها إلى اليوم، فكانت جالديران بداية لمرحلة مفصلية للعثمانيين بدخولهم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فلولا تحالف العثمانيين مع الكرد لما استطاع العثمانيون الانتصار في جالديران على الصفويين، والزحف إلى داخل منطقة الشرق الأوسط.
فما حققته الدولة العثمانية بمساعدة كردية في احتلال مناطق مختلفة من الشرق الأوسط، تسعى إلى تحقيقه اليوم، بجر بعض الكرد إلى صفوفهم، وتحقيق ما كانت تطمح إليه الدولة العثمانية، إلى أن الآمال تصطدم بالخيبات، نتيجة معرفة الكرد بحقائق دولة الاحتلال والتمسك بنهج المقاومة ضد محاولات الإبادة. ومن الجدير بالذكر أن معظم المؤرخين الأتراك في يومنا هذا ينكرون دور تحالف الإمارات الكردية مع العثمانيين في انتصار العثمانية في المنطقة، وتقوية جيشها وإمبراطوريتها. وهم يسعون الآن مرة أخرى لاسترجاع أمجادهم، وتشكيل إمبراطوريتهم، إلّا أن هذه المرة بدون الكرد، بل أكثر من ذلك على حساب إبادة الكرد، وهذا ما لن يحدث أبداً. فلو فعل الأتراك ما فعله أجدادهم العثمانيون من اتفاق مع الكرد؛ لربما كانوا قد حققوا ما يحلمون به في المنطقة، إلا أنّهم يجهلون الدور الكردي في المنطقة، ويسعون لتفادي إبادتهم.