سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

ما بين جدليّة الحياة والموت كانت الصرخة ـ2ـ

"أنا أقاوم إذاً أنا موجود"

أحمد بيرهات: (كاتب وباحث ورئيس مشترك لمنتدى حلب الثقافي)_

الظروف التي تلت مقاومة السجون في كردستان وتركيا ساهمت في وقوف الشعب الكردي على قدميه مُجدداً وطرح فلسفة جديدة وهي “كلما قاومتَ؛ أثبتَّ وجودك” فأظهر هذا الشعب تنظيماً وشجاعة قلَّ نظيرها في التاريخ وظهرت برؤية جديدة للحياة، وكيف يمكن أن تُعاش، فأظهر بذلك الإنسان المقاوم الذي يُدرك معاني الحياة ويثمّن التضحية بالنفس في سبيلها، فبعد المقاومات في سجون الفاشيّة التركيّة والمقاومة التي أبداها وسطّرها الرعيل الأول لحركة حرية كردستان والقادة الأوائل، والتي طُبّقت فعليّاً في مقاومة الأسبوع الأحمر الذي أسّس فعلياً لمفهوم الحماية والتفكير النضالي التنظيمي والعملي من خلال الرد والعمل العسكري، فهاتين المقاومتين أسّستا فعلياً لقفزة 15 آب التاريخية، التي رسّخت مبادئ التنظيم والانتفاضات الجماهيرية وخوض حرب الشعب الثورية وفق مبدأ مجاراة الأعداء واستخدام المرونة السياسية إن اقتضت ظروف النضال ذلك.
هذا العنفوان الثوري والروح الشامخة، وهذه الأساليب النضالية من خلال التضحيات التي انتقلت إلى ساحات نضاليّة أخرى، كل ذلك ساهم في انطلاقة فكريّة جديدة بانضمام المرأة بشكلٍ أكثر حضوراً وفعاليّة بعد تأسيس الجيش الشعبي لتحرير كردستان عام 1986 وبعد تأسيس اتحاد المرأة الوطنية الكردستانية عام 1987.
وهذا ما رأيناه والتمسناه وشاهده كل العالم وبات طرازاً وأسلوب خاص بهذه الحركة من خلال تضحيات المناضلات الثوريات كـالشهيدة بريتان التي استلهمت من هذا التاريخ النضالي المقاوم لرفاقها في حركة حرية كردستان بجرأتها وفدائيتها عندما واجهت خونة القضية الكردية عام 1992 وقالت لهؤلاء الخونة: “لن استسلم لكم”، فضحّت بجسدها لكي لا تقع أسيرة لهذه الزمرة الخائنة التي خضعت للأعداء على حساب شعبها، وسارت على دربها المناضلات بيريفان وروناهي في الساحة الأوروبية عام 1994 رداً على  قرارات نظام الحضارة المركزية الأوروبية بإدراج حزب العمال الكردستاني على لائحتها للإرهاب فأضربنَّ النار بأجسادهن تنديداً ورفضاً لهذا القرار الجائر، وتأكيداً لاستمرارية روح مظلوم دوغان ورفاقه.
وقامت المناضلة زيلان عام 1996بعملية نوعية بتفجير نفسها بجنود الجيش التركي، ومن خلال هذه العملية الفدائية عبّرت عن غضبها ومقارعتها للذهنية الفاشية التركية التي استهدفت القائد عبد الله أوجلان في محاولاتها لاغتياله في دمشق.
وبعد استهداف القائد أوجلان وأسره عام 1999 شُكّلت “كتائب الخالدين” تحت شعار” لن تستطيع حجب شمسنا” كأسلوب وطراز نضالي لرفاق حركة حرية كردستان كتعبير عن وفائهم لقائد الحركة.
كيف كان رد القائد عبد الله أوجلان، وكيف قرأ رسائل رفاقه المقاومين؟
لقد كان للمقاومين والمناضلين في حركة حرية كردستان ثقة كبيرة بالقائد عبد الله أوجلان وبأنه سوف يتخذ شكلاً جديداً في المقاومة من مكان أسره في إمرالي ويعطي شكلاً ومعنىً غير الذي اتخذته المقاومات في تاريخ هذه الحركة أثناء مجابهتهم للذهنية الفاشية التركية منذ أعوام السبعينيات والثمانينيات وبشكلٍ مختلف وأبدع تركيبة جديدة على أساس ذلك، حملت تأثيراً كبيراً على هذه المرحلة، تُليق بمكانة وثقل القائد عبد الله أوجلان الفلسفية والعلمية، وعلى هذا الأساس عمل القائد عبد الله أوجلان بشكلٍ مُميّز وبدأ بأسلوب جديد من المقاومة لم يتوقعه أحد سواء أعدائه أو أصدقائه من خلال ما قام به من تحوّل فكري وسوسيولوجي بحثاً عن الحقيقة والحرية من خلال براديغما وطراز الواقعية الثورية والإبحار والتعمّق في دراسة التاريخ واستخلاص الدروس منه، من خلال إجراء تقييم شامل لتاريخ حركة حرية كردستان وإجراء النقد لها وطرح البديل من خلال تبنّي جوهر وثقافة كل مقاومات التاريخ وتنظيمها في أطروحته ونظريته العصرانية الديمقراطية ومشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية من خلال تنظيم المجتمع عبر نظام الكومينات والمجالس وخلق توازن مجتمعي في مواجهة السلطة الحاكمة وهذه النظرية رأت النور عندما حانت الظروف الموضوعية لها ضمن تجربة ثورة روج آفا في مناطق شمال وشرق سوريا وباتت تُمثّل آمال المهمشين والساعين للحرية.
وبذلك رد القائد عبد الله أوجلان على نداءات رفاقه الشهداء وكل المناضلين الذين لا يزالون يقودون ويمارسون النضال التحرري حتى الآن، والذين كان لهم دور وجهود كبيرة لهذه الأيام المباركة التي نعيشها، ولسان حالهم يقول: “على شعوب المنطقة أن تسير على النهج الذي رسمناه ووضعناه بمقاومتنا”.
براديغما القائد عبد الله أوجلان، تُبرز دور المعنى والفهم المُطلق في مقاومة ما يتعرّض له الإنسان في معتقله وسجنه حيث يقول: “فالتمكن من الفهم المُطلق يقتضي الوحدة والعزلة المطلقة، فتحمّل الوحدة المطلقة غير ممكن إلا بالقابلية لفهم المطلق، والوحدة المطلقة لا تتحقق إلا ببلوغ المعنى – المادة أي بالخروج عن كينونة علاقة القوة المادية، فالحياة الحقيقية هي التي تقتضي الوحدة والعدم واللا مادة بشكلٍ مطلق، فبلوغ الحياة أو معناها غير ممكن إلا بنحو ثنائي ونسبي”..
وما نشاهده الآن من تطبيق نظام الرئاسة أو الإدارة المشتركة كشكل إداري في كل المؤسسات التي تؤمن بالفلسفة الأوجلانية وتُطبّق رسمياً في مؤسسات الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا وتكمن في جوهرها النديّة في ثنائية الرجل والمرأة.
ما يمكن استنتاجه من خلال مقالنا هذا هو التأكيد على:
أهمية التعمّق الفكري والعقائدي وإحياء الروح الرفاقية والفدائية كأسلوب وطراز اتبعته حركة حرية كردستان في مسيرتها النضالية التي تجاوزت النصف قرن ولعبت دوراً حاسماً من خلال تضحيات مناضليها في سبيل تحقيق الأهداف واليوتوبيا التي ساروا وناضلوا من أجلها ولم يفقدوا الأمل في بناء وطن ديمقراطي تعددي تسوده المساواة والعدالة ويعيش مواطنيه أحراراً ويأكلون ويشربون من خيراته ويعيشون فيه بأمان، وما زالوا رفاقهم مستمرين ومُصرين على تحقيق ما رسموه ورسّخوه كنهج وبراديغما حياتية مجتمعية، حتى عندما كانوا تحت التعذيب أو على ذرى الجبال أو في أي موقع نضالي أو محفل سياسي أو ودبلوماسي أو حقوقي، فالنضال والمقاومة تحوّلت إلى ثقافة والسر الكامن في جدلية هذه الحركة يكمن في أنها:
تستلهم من قيمها الفكرية وقائدها وشهدائها وترسيخ كل ذلك في إطار اصطلاحي ونظري وتنظيمي، يؤمن به الكوادر والقادة الحقيقيين لهذه الحركة وهم من يضحون أولاً في مسيرة نضالهم.
في مقابل كل هذه التضحيات هناك مسألة كانت تعيق مسيرة حركة حرية كردستان ويجب الإشارة إليها، وعبَّر عنها أحد قادة حركة حرية كردستان البارزين “جميل باييك” عنها بالقول:
” ما كان يعيق نضالنا هم المقصرين والتصفويين الذين كانوا يعملون وينشطون في الداخل، ولم تكن تُشكل الهجمات والاستهداف التركية ضدنا يوماً هاجساً أو انزعاجاً أو تراجعاً أو انهزاماً معنوياً، فالذي يتبنّى ويحمل قيماً ومبادئ يؤمن بها، لا يستسلم ولا ينكسر وتكون معنوياته مرتفعة دائماً ولا يكتفي بذلك بل يُبدع ويخلق المعنويات وينعش من فكره الأمل والحرية لكل أفراد الشعب”.
فالسؤال الذي يهز كيان المرء هو، هل يمكن المطالبة بالحرية وإثبات كينونة الإنسان دون بذل الكثير من الجهد؟
إن الحياة بدون نضال ومقاومة في مواجهة ما يتعرّض له المرء من ظلم وجور يعُدُّ خديعة وزيف، وأنَّ الروح الرفاقية والفدائية وبراديغما القائد عبد الله أوجلان عوامل أساسية في استمرار وإحراز الظفر والنصر.
في إدراك معنى الحياة
لقد حوَّل الرعيل الأول من مناضلي حركة حرية كردستان من خلال نضالهم بأشكاله المتعددة كل الأماكن التي يتواجدون فيها إلى قِلاع للمقاومة، من خلال تعليم الشعب والتأكيد لهم بأن النضال من أجل الحرية والكرامة بحاجة إلى إدراك واستيعاب معنى الحياة التي يسعى الإنسان لبلوغه وعندها لا يهم أين يعيش المرء، وأي بقعة يختاره، فحقيقة ومعنى الحياة تكمن في تنمية وعي الحقيقة وهذا ما سيحوّل أشد الآلام والمعاناة والصعوبات إلى منبع الغبطة والسعادة، وبهذا الخصوص، يقول القائد وعالم علم الاجتماع عبد الله أوجلان في مجلده الخامس ما يلي:
“الحياة بالنسبة لي غير ممكنة إلا عندما تُعاش حرة، فالحياة المجردة من الأخلاق والعدالة والسياسة ينبغي ألا تُعاش على الصعيد المجتمعي، لا يمكن عيش الحياة البشرية إلا بنحو مجتمعي حر وديمقراطي ومفعم بالمساواة ضمن الاختلاف، سواء كان المرء طليقاً أو سجيناً والمواظبة حتى آخر رمق على خوض الكفاح”.
من خلال تتبع تاريخ هذه الحركة التي تعمل بروح جديدة ومنعشة وتتخذ المبدأ الكوني والطبيعي في مسيرتها الفكرية متخذة جدلية التاريخ أساساً في تجديد أفكارها، والتي باتت أكثر حيوية من ذي قبل من خلال التحوّل الفكري الثاني الذي قام به القائد عبد الله أوجلان في بداية عام ألفين ودوّنها في مجلداته الخمسة “مانيفيستو الحضارة الديمقراطية” وفق إدراك أن:
أهمية وضرورة بناء وتأسيس مجتمع سياسي أخلاقي بيئي ديمقراطي متحرر جنسوياً وقد آن أوانها، فالإرث النضالي بات يجني ثماره من خلال ثورة روج آفا التي استُلهمت من روح هؤلاء المناضلين والتجربة النضالية الكبيرة لحركة حرية كردستان وقراءتها الصحيحة للمستجدات التي تمخضت عن صراع دول الهيمنة العالمية وأجنداتها، وطرح مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية من قِبل القائد عبد الله أوجلان كبديل للنظم التي تعتمد الدولتية القومية حلاً لمعضلاتها وطُبّق فعلياً في ثورة روج آفا كحل للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر مرتكزات الأمة الديمقراطية والاقتصاد الكومونالي والصناعة الأيكولوجية.
أخيراً يمكننا القول إن الإرث النضالي لرفاق حركة حرية كردستان والرسائل الموجهة من قبلهم للشعوب والأحرار في كردستان وتركيا قد وصلت ومسيرتهم مستمرة من خلال ثورة روج آفا التي جاءت نتيجة تضحياتهم الثمينة وروحهم النقية، وأن براديغما القائد عبد الله أوجلان في العصرانية الديمقراطية تعبّر عن أهدافهم المثلى.
ما أردنا أن نقوله وأن نعبّر عنه في مقالنا هذا هو التالي:
هؤلاء المناضلون والثوريون الذين ضحّوا بكل ما لديهم وهم في ريعان شبابهم، لابد أنهم قد فهموا أن المناضل هو الريادي والجزء الهام من الشعب، ويتحمّل المسؤولية الكبرى في حماية شعبه ويُقدّم فكره ومعرفته وجسده فداءً لتقدّم شعبه ومجتمعه وهو ما يُعبّر عنه الثوري ويُعرّف به عن نفسه وفق المفهوم الفلسفي الذي عمل عليه ورسخه عالم علم الاجتماع الحديث والقائد عبد الله أوجلان وعبّر عن هذه الفلسفة في مجلده الرابع بأسلوب فلسفي بليغ بالقول:
” أنا هو أنا، أنا الكون، أنا الزمكان الذي لا قبل له ولا بعد، لا قريب ولا بعيد، أنا الحق، هذه الحكم المطلقة كشفت عن الهدف الأساسي لحياة الإنسان الاجتماعية” هذه الحقائق قد لا تُعرّف الحياة، بل هي مجرد بحث في ميادينها فالحياة لا تُدرك أثناء عيشها، وهذا التناقض قد فك شيفرته وتفاصيله المناضلون الثوريون في كل العالم ورسخوا ودوّنوا ذلك في نضال حركة حرية كردستان على كافة الصعد السياسية والعسكرية والدوبلوماسية وما نشاهده ونلاحظه ونعيش كامل تفاصيلها في ثورة روج آفا وتجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا.