منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلطة وهو يثير جدلاً واسع ومتواصل، بسبب التناقضات المستمرة والتضارب في التصريحات والمواقف تجاه القضايا المختلفة الخاصة بالقضايا الدولية ولا سيما قضايا الشرق الأوسط.
شكّل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا، والذي أعلنه في العشرين من كانون الأول 2018، صدمة لحلفاء الولايات المتحدة وبخاصة الشركاء الدوليين والمحليين في التحالف الدولي ضد داعش والذي تم إطلاقه في أيلول 2014؛ بسبب القرار المفاجئ الذي أعلنه ترامب منفرداً على ما يبدو وبدون استشاره أعضاء إدارته، وهو ما اتضح من إعلان وزير دفاعه جيمس ماتيس الاستقالة من منصبه بعد ساعات من إعلان ترامب قراره بسحب القوات من سوريا، معتبراً أن داعش هُزم في سوريا بالفعل.
سيل من التصريحات الأمريكية حول الانسحاب من سوريا
وخلال الأيام القليلة الماضية تصاعدت وتيرة التصريحات والأحاديث وحتى التغريدات من ترامب وأفراد إدارته البارزين، متناولين مسألة سوريا وسحب القوات منها والتي لا زالت تثير حالة من اللغط والاستهجان، ومن هذا المنطلق آثرنا العمل على تحليل وتتبع تصريحات المسؤولين الأمريكيين من أعلى هرم السلطة (الرئيس) وغيره، في هذا الملف الشائك خاصة قبيل بدء مستشار الرئيس للأمن القومي “جون بولتون” للمنطقة لبحث تداعيات الانسحاب الأمريكي من سوريا والتي اختار فيها بلدين يمثلا أهمية كبيرة فيما يتعلق بالوضع في سوريا وهما تركيا وإسرائيل. ويبدو أن اختيار وجهتي بولتون الخارجتين في الوقت الراهن له أهميته الكبرى، وهو ما سنتناوله في سياق التحليل. لكن؛ قبل الدخول في المسألة فالأمر يستدعي تطرق سريع لسياسات ترامب الخارجية وخاصة ما يخص سوريا منها. وعلى عكس دور الهيمنة الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية آثر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يعود في سياسته إلى الداخل، متبنياً إستراتيجية “أمريكا أولاً”، التي أعلن عنها وكررها مراراً، ومن هذه الرؤية بدأ ترامب في صياغة علاقات الولايات المتحدة الخارجية مجدداً، مستخدماً عقلية رجل الأعمال التي لم تغادره خلال حكمه للدولة التي تقود العالم.
رغبة انسحاب ترامب المبكرة من الحرب
واعتبر المتابعون والمراقبون أن إعلان ترامب الذي شكل صدمة للجميع لم يكن مفاجئاً، فالرئيس الأمريكي أعلن في أوائل نيسان من العام الماضي رغبته في الخروج من سوريا، بل ووعد باتخاذ القرار قريباً، وهو الأمر الذي قلل منه كثير ممن تابعوا سياسة ترامب معتبرين أنها قد تكون في إطار ابتزاز ترامب التجاري، بل وبمثابة شيزوفرينيا متضاربة وغامضة، وفقاً لما روجه له الإعلام الأمريكي وقتها. ورغم التحذيرات الكبيرة والواسعة من مستشاري ترامب ومن المسؤولين العسكريين في إدارته الذين أكدوا أن “الأمر لا يزال يتطلب عمل شاق لهزيمة داعش”، لكن ترامب منذ ذلك الوقت كان مصرّاً على يقينه بأن الحملة في سوريا قاربت على الانتهاء. وخلال هذه الفترة بدت حالة التناقض الواضحة بين الرئيس ترامب والبنتاغون، الذي كان يرى أن الأمور بحاجة إلى مزيد من الجهود، وليس هذا فحسب، لكن خرجت أحاديث عن تدشين قواعد عسكرية أمريكية شمال سوريا، وفي أعقاب إعلان ترامب خرجت التأكيدات من القيادات العسكرية الأمريكية على مختلف درجاتها لتؤكد أن الحرب على مرتزقة داعش لم تنتهِ وأن المهمة لا زالت مستمرة وتحتاج للمزيد من الوقت.
وأكدت وزارة الدفاع الأمريكية بأن مغادرة أمريكا لسوريا في هذا الوقت يعتبر خطأ استراتيجي، ومن أبرز المشاهدات التي تؤكد أن ترامب اتخذ قراره منفردا بدون العودة إلى البنتاغون، أو استشارة مساعديه، فإن الرؤية العسكرية والسياسية الأمريكية قبل أقل من شهر من قرار ترامب بالانسحاب، كانت تؤكد على أن الولايات المتحدة تستعد لحرب مفتوحة، وأنها ستبقى على الأراضي السورية طالما أن إيران لم ترحل عنها، وهو ما أكده مستشار الأمن القومي جون بولتون نفسه في النصف الأخير من تشرين الثاني الماضي، حيث أكد: “لن نرحل طالما أن القوات الإيرانية باقية خارج حدود إيران”، وهذا يشمل حلفاء إيران والمجموعات المسلحة. أما البنتاغون فكان يؤكد أن الولايات المتحدة ستبقي على الوجود العسكري في سوريا، لمنع عودة داعش، كما سبق أن حذر وزير الدفاع الأمريكي المستقيل ماتيس حلفاء الولايات المتحدة من أن مغادرة سوريا، فور انتهاء المعارك ضد داعش، سيكون خطأ إستراتيجي، وهو الأمر الذي يؤكد على أنه وفقاً للروية العسكرية الأمريكية فإن أي انسحاب في هذا التوقيت مستحيل.
ترامب يُغيّر قواعد اللعبة ويفتح الباب لتركيا
وفي الوقت الذي تقدر فيه التواجد العسكري الأمريكي في سوريا بحوالي ألفي جندي أمريكي يقومون بأدوار مختلفة في إطار حملة مكافحة داعش، إلا أن إعلان ترامب جاء ليُغيّر خريطة الأوضاع في المنطقة لا سيما بعد إعلان الرئيس التركي رجب أردوغان وتلويحه بالتحرك العسكري في شرق الفرات. الأمر الذي يزيد التساؤلات وهو ما أعلنته وكالة الأسيوشيتد بريس من أن إعلان ترامب جاء بعد اتصال هاتفي بأردوغان، سأله خلاله إذا كان تركيا قادرة على القضاء على داعش في سوريا أم لا، وعقب الاتصال طلب ترامب من مستشاره للأمن القومي جون بولتون بدء العمل لسحب القوات من سوريا، ليعلن ترامب قراره المفاجئ حتى لأردوغان، وفقاً لما أكدته مصادر تركية. ولم يعلن ترامب مع إعلانه الانسحاب من سوريا جدولاً زمنياً بالانسحاب من سوريا، إلا أن مسؤولين عسكريين أكدوا في أعقاب القرار أن ترامب يريد انسحاباً سريعاً للقوات، لافتين أن يكون في غضون 30 يوماً، وبعد ذلك تراجع ترامب نفسه عن الانسحاب السريع من سوريا الأمر الذي اعتبره البعض مناورة وتناقض غير مفهوم في سياسة ترامب تجاه سوريا، وبدأت التقارير تتحدث عن انسحاب خلال فترة بين ثلاثة إلى أربعة أشهر، وعقب ترامب على هذه التقارير التي وجهت انتقاد واسع له قائلاً إنه لم يحدد جدولاً زمنياً لانسحابها، مؤكداً أنه لا يريد “البقاء في سوريا إلى الأبد”، وأن “الولايات المتحدة ستنسحب من سوريا على مدى فترة من الوقت”.
ضرورة حماية الكرد في سوريا
ورغم أن إعلان ترامب الانسحاب المفاجئ جاء بدون تشاور مع الكرد الذين كان لهم الدور البارز في الحرب على داعش في سوريا، والذين يخوضون في هذه المرحلة أشرس المعارك ضد داعش الآخذ في الأفول، إلا أنه عاد ليتخذ الكرد ذريعة للبقاء أو التراجع عن قراره وموقفه ولو لبعض الوقت، فهو يقول خلال اجتماع حكومي، بأن الولايات المتحدة تريد حماية المقاتلين الكرد الذين تدعمهم حتى مع سحب القوات الأمريكية. ويبدو ترامب متناقضاً في حديثه هنا أيضاً فقد جاء إعلانه سحب القوات الأمريكية في الوقت الذي تلوح فيه تركيا بهجوم على الأراضي التي تديرها الإدارة الذاتية، ولغرض واضح وهو القضاء على وجود الإدارة وإنهاء أي قوة أو طموح مستقبلي للكرد في هذه المنطقة، وتعتبر عفرين المثال الحي لممارسات تركيا التي احتلت الأرض وتسعى لتغيير التركيبة الديمغرافية فيها لصالحها. ورغم موقف ترامب إلا أن المسؤولين العسكريين الأمريكيين يعون تركيبة القوة في شمال سوريا، وحتى أنه بمجرد إعلان ترامب خرج مسؤولون عسكريون ليطالبوا بضرورة عدم خسارة المكون الكردي والمقاتلين الكرد، الذين كان لهم دورهم الهام والتاريخي في محاربة داعش في سوريا والقضاء عليه، وخرج بعضهم بتوصية هزيلة، وهي ما نقلتها وكالة رويترز الإخبارية في أعقاب القرار الأمريكي، يدعون فيها للسماح للمقاتلين الكرد الذين يحاربون داعش بالاحتفاظ بالأسلحة التي قدمتْها لهم واشنطن.
وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بدوره خرج ليؤكد على حماية الكرد في سوريا من أي هجوم محتمل وفقاً لقوله، وأشار بومبيو في تصريحاته التي تأتي قبل يومين من زيارة جون بولتون، لتركيا، إلى أن ترامب أكد “أهمية ضمان عدم قيام الأتراك بذبح الكرد” مع انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، متحدثاً عن تعهدات الولايات المتحدة بعدم التخلي عن الكرد، ومعتبراً أنهم كانوا أهم شريك في محاربة داعش في سوريا. ولكن؛ الواضح أن حديث ترامب وبومبيو هو للاستهلاك المرحلي ومن أجل استرضاء الكرد والحلفاء، خاصة فرنسا، الذين تحدثوا بأن الولايات المتحدة تبحث عن مصلحتها وترتكب خطأ تاريخي سيضر بالمنطقة. ويبدو حتى من حديث وزير الخارجية الأمريكي درجة الغرابة في الحديث عندما يقول صراحة “عدم قيام الأتراك بذبح الكرد”، وفي الوقت نفسه فإن الأمر فيه تلويح وإشارة ربما لم يقصدها بومبيو فعلياً، فخلال الفترة الأخيرة ارتبط مصطلح الذبح بداعش، الذي مارس هذه السياسة ضد المدنيين الأبرياء الذين ليس بأيديهم أي وسيلة للدفاع عن أنفسهم، ومن ثم فإلى ماذا كان يلمح بومبيو بحديثه هذا؟ وهل يسعى بومبيو بحديثه إلى رفع وصمة أن الولايات المتحدة تبحث عن مصالحها ثم تغادر وتترك حلفائها أيّا كانوا ليدافعوا عن أنفسهم ويواجهوا طواحين الهواء؟
جولة بولتون وأهدافها
وفي جانب آخر؛ جاء مستشار الأمن القومي جون بولتون بحديث ربما يحسب بأنه أفضل وأكثر أهمية، إذ قال، في تغريدة له على تويتر يوم الجمعة الماضي وقال فيها: “سنقف بقوة مع حلفائنا الذين حاربوا معنا ضد داعش”، لكنه أيضاً لم يحدد من يقصد بقوله، وتأتي تغريدة بولتون قبل زيارته لتركيا وإسرائيل، والتي أعلن عنها حيث يزورها برفقة المبعوث الخاص إلى سوريا جيمس جيفري، ورئيس الأركان جوزيف دانفورد، من أجل التنسيق بشأن انسحاب القوات الأمريكية من سوريا.
وقال بولتون في تغريدته: “ذاهبون من أجل مناقشة سبل التعاون مع حلفائنا بشأن انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، ومنع ظهور داعش مجدداً، وحماية مواقف الذين قاتلوا معنا ضد داعش، ومكافحة الأنشطة الإيرانية الخبيثة في المنطقة”.
وأخيراً؛ يبقى السؤال عما بحثه فعلاً بولتون مع المسؤولين الاتراك فيما يتعلق بسوريا وخاصة الشمال السوري الذي تتجسد فيه جملة من الأطماع التركية، سواء عبر أحلام خلافة زائفة وسيطرة في الإقليم، أو الهدف الأبرز للأتراك وهو القضاء على أي تجربة ناجحة للكرد، وعدم السماح لهم بأي تواجد فعلي على الأرض. أما بالنسبة لإسرائيل فمفهوم أن إيران والوجود الإيراني في سوريا هو أهم الأمور التي تم بحثها، فأمريكا من ضمن ما ستتركه في سوريا هو النفوذ الإيراني الذي يشكل تهديداً لإسرائيل، الحليف الإستراتيجي والدائم للولايات المتحدة في المنطقة، والذي لن يقبل بوجود هذا التهديد الإيراني الذي بدأ يقوى ليس فقط في سوريا وإنما في غزة عبر فصيل الجهاد الإسلامي وهو ما كشفته الزيارة الأخيرة لقادة التنظيم إلى طهران، على ما يبدو أن قطع الزيارة بهذا الشكل يدل على عدم التوافق بين سياسة الجانبين.