د. أنمار نزار الدروبي (أستاذ الفكر السياسي)_
السؤال: هو القدر، أم هي الحسابات الاستعمارية ونفاذ مدة صلاحية مؤامرة سايكس بيكو بعد مضي أكثر من قرن على إبرامها وتبدّل موازين القوى منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وتفرّد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم؟
وبهذه الأجندة تم اعتبار الحرب على غزة مشروعاً للإبادة الجماعية أو التهجير القسري، أما باقي التفاصيل معروفة لكل متابع في هذا الشأن. إذاً من حقنا أن نتساءل:
-
هل الذي جرى بمجمل تفاصيله المأساوية المُرعبة كان نتيجة أخطاء السياسة الأمريكية التي نتِجت عن تدمير غزة؟
-
أم أن كل ذلك يندرج ضمن استراتيجية مشروع أمريكي شامل لمنطقة الشرق الأوسط؟
في حالة اعتبار ما جرى تراكم أخطاء سنكون أمام هول من العبث والجهل وفقدان توازن ضمن دوائر صنع القرار الأمريكي، وهذا الاعتبار تنبني عليه نتائج وخيمة تتحمّل مسؤوليتها الولايات المتحدة الأمريكية قانونياً وتاريخياً وأخلاقياً.
أمّا في حالة اعتبار ما جرى ويجري حاليا بأنه مخطط يندرج ضمن استراتيجية مدروسة بهدف تحقيق أهداف بعيدة المدى في إطار مشروع كبير وشامل. هذا سيجرنا الى ويلات قادمة قد تكون أدهى مما أصابنا وحاق بمنطقتنا. من هنا بالتحديد نستطيع اعتبار سياق التصعيد بين إسرائيل وحزب الله لا يعدو أكثر من تشابك بين قوتين في الشرق الأوسط، ولن تتجاوز كل القوى المتواجدة على الساحة حدود أدوارها في سيناريو العرض البهلواني، بمعنى أدق كل شيء تحت السيطرة إلا إذا كان هنالك فصل مرعب ضمن العرض المسرحي يتطلب إشعال نار كبرى لتقديم قرابين بشريّة على نصب مذبح الصهيونية.
مما لا شك فيه إن الحروب ليست ألعاب إلكترونيّة كما يبرمجها العقل البراغماتي ويحاول تطبيقها في أرض الواقع، إذا أردنا اعتبار الإرهاب نتيجة لعوامل وأسباب فإن أخطاء السياسة الأمريكية ضاعفت تلك العوامل. عليه سوف تؤدي الأخطاء الكارثية للولايات المتحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط الى ظهور أجيال مقاومة أشدُّ ضراوةً وتعقيداً تتجاوز حدود القدرة على احتوائها أو مواجهتها. كل المؤشرات العلمية والعملية تؤكد على أن الشرق الأوسط يسير باتجاه المجهول مع العقل الأمريكي المُلبد بغباء حسابات الأرقام. هذا العقل فاقد للوعي الحضاري التاريخي ويمضي على هواه بدون بوصلة تحدد له الاتجاه الصحيح. الحياة لغز عظيم تتجدد مع كل إشراقة شمس صباح يوم جديد، والذي لا يستوعبه العقل الالكتروني هو أنه يبقى افتراضيّاً يحاكي الواقع وليس واقعيّاً، وأن الانغماس الزائد في لغة الحواسيب سينتهي بفقدان لغة التفاهم بين البشر ويزيد من عزلة الذين يريدون إدارة العالم عن العالم.
وبناءً على ما تقدم، فإن الخوض في التفاصيل يلزمنا ضوابط عقلانية وحسابات دقيقة لا تؤمن بالخرافات وشحذ اللامعقول لأن المستحيلات تفرض نفسها، وهذه المستحيلات هي:
المستحيل الأول: في حالة اندلاع أي مواجهة بين إسرائيل وحزب الله، لن تبقى سوريا مكتوفة الأيدي، لاسيما أن سوريا تمتلك صواريخ روسيّة نوع (إس 300)، وهي ثلاث بطاريات صواريخ أُعطيت لسوريا من قِبل الروس، وضِعت في دمشق واللاذقية، بشرط عدم استخدامها ضد إسرائيل.
المستحيل الثاني: أن تبادر سوريا بالتدخّل دون موافقة الروس، لاسيما أن الولايات المتحدة وإسرائيل على دراية كاملة بأن الساحة السوريّة تحت تصرف الروس. بالعودة قليلاً إلى عام 2018، عندما أن دمرت طائرات أمريكية قوة عسكرية قوامها 400 جندي بينهم جنود روس ومن الجيش السوري وفصائل إيرانية، حيث تم التنسيق بين الروس وإيران على الضربة الأمريكية، لأن من المعروف أن الطائرات الإسرائيلية كانت تصول وتجول في سماء سوريا قبل هذه الحادثة دون أي رادع.
المستحيل الثالث: أن تبقى إيران على الحياد، وربما إيران ستقوم باحتواء الأزمة خوفاً على مصير حزب الله.
المستحيل الرابع: أن تعيش إسرائيل تحت رحمة صواريخ حزب الله.
إذاً من البديهي ستحدث تغيرات بل ستتفكك المنظومة الإقليمية، وعلى صعيد السياسة عندما تتفكك أي منظومة تبرز ضرورة احتواء الحلقات كخيار أنسب من التلاعب في مفاصل نظامها الذي تشكلت بموجبه، وهذا ما يُسمّى بالواقع.
في حالة قيام إسرائيل بأي عمل عسكري كبير ضد حزب الله، سيمثل هذا الحدث اندفاع سريع وغير مدروس من قبل أمريكا للعبث في مُقدرات منطقة الشرق الأوسط، بيد أن هذا العبث الأمريكي بدأ في أفغانستان ثم احتلال العراق بدون أي مُبررات أو مسوّغات قانونية دولية تسمح بذلك. بسبب هذا العبث فشلت أمريكا في فرض هيمنتها، حيث لم تستطع سد الفراغ الجيوسياسي الذي حدث بزوال الأنظمة السياسية في بعض الدول العربية، وقد تمت تعبئة ذلك الفراغ بحشوه من القوى المتناقضة الذي تسبب تراكمها وتقاطعها مع ارتباطاتها الأيديولوجية بتداعيات جعلت من الساحة العربية بؤرة استقطاب لكل أجندات التطرف بمختلف اتجاهاتها الفكرية والطائفية، وتحولت المنطقة الى ساحة صراع دولية من خلال حروب الوكالة باستثمار تناقض القوى وتجنيدها وتمويلها من أجل تحقيق أهداف تخدم استراتيجيات الدول الكبرى والإقليمية.
عليه فإن هذا العبث وما سيرافقه من تخبّط سياسي سينتج عنه زلازل في عموم الشرق الأوسط، تؤدي الى دمار هائل يعجز العالم عن معالجة أضراره أو خلق معادلة جديدة تُضفي إلى استقرار بديل عنه كما شهدنا ونشهد اليوم في غزة وسوريا وليبيا واليمن وربما سيشمل دول أخرى إذا لم يتوقف هذا العبث وتبدأ الولايات المتحدة الأمريكية بمراجعة سياستها وأخطائها وتصحيح مسارها بإعادة التوازن وفق رؤيا تنطلق من تلبية مطالب الشعوب واحترام إرادتها وحريتها إسوةً بشعوب العالم. مع الكف عن دعم إسرائيل بالسماح لها في ممارسة قمع الشعب الفلسطيني ومصادرة الحريات.
إن ما سيتمخض عن المواجهة بين إسرائيل وحزب الله، ليس حالة منعزلة أو خاصة بظروف الواقع الإقليمي وعلاقته بالكابينة السياسية في البيت الأبيض، وربما هذه المواجهة محسومة سلفاً ومؤجلة بدوافع خلق واقع يسمح له أن يعيش بعد خروجه من الحاضنة الأمريكية. بغض النظر عن دقة حسابات هذا الإجراء وما سينتج عنه، فهو سيُقحِم المنطقة كلها في أزمة خطيرة للغاية ستكون كلفة الخروج منها باهظة على السياسة الأمريكية أكبر من قضية فشلها في فيتنام.
في السياق ذاته، يجب أن نسجل ملاحظات مهمة للغاية وهي:
-
إن ميزان القوى السياسية في المنطقة يستند بالأساس على صراع قوى مسلحة وضمن إطار عقائدي. هذه القوى المسلحة لها اليد الطولى على الساحة ميدانياً وسياسياً.
-
أمام هذا المأزق نتساءل ما هي خيارات السياسة الأمريكية للخروج من وحل مستنقع هذه الأزمة إذا حدثت؟ إن هذه المواجهة لو حصلت ستكشف عورة السياسة الأمريكية على صعيد فرض الإرادة والاحتواء.
-
فهل يغفل صنّاع السياسة في إيران عن خطورة أزمة المواجهة بين إسرائيل وحزب الله. وستضع إيران، في اختبار القدرة والقوة على الصعيد السياسي والعسكري.