سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

لماذا تكتب؟

هارون الصبيحي_

سؤال طرح على آلاف الكتّاب والأدباء في العالم، كلما قرأت، أو سمعت إجابة أحد الكتاب والأدباء الشهيرين، أو المعروفين ممن أعرف مسيرتهم وتوجهاتهم، أو قرأت تاريخهم جيداً على هذا السؤال من إجابات مثالية، يخطر على بالي فوراً أن أسأله: لماذا تكذب؟ لماذا يتناقض ما ورد في كتبك وما وتقوله الآن عن الكتابة مع مواقفك وأفعالك؟ السلطة ورأس المال ووسائل الإعلام الموجهة وتوجهات الكاتب السياسية والثقافية، وعلاقاته ونفاقه والجوائز، وأخيراً إبداعه، كل ذلك له الدور الأساس في شهرة الكاتب، هذا لا يعني أن كل كاتب شهير سلك طرقاً ملتوية ليصل للناس، ولكن عندما تتأمل وتدقق بكتابات الكثير من الكتّاب، ثم تنظر إلى أفعالهم، ستشعر بخيبة الأمل وأحياناً بالذهول والصدمة، هي اليد أو الأصابع نفسها التي تخط كتابات ثائرة على الظلم والفساد والطغيان، اليد التي تكتب عن الحب والمحبة والإنسانية، تمتد لتصافح يد الظالم أو الطاغية، أو المتسبب بفقر الناس وقهرهم وموتهم..
ليس في الأمر هنا حرية رأي أو وجهة نظر، ذلك الظالم الذي يصافحه الأديب بكل احترام وتقدير لو نطق الحجر لصرخ في وجهه قائلاً: أنت ظالم ومستبد، إذا لم يكن الكاتب أو الأديب، وهو صاحب فكر ورأي قادراً على تمييز الظالم فمن يستطيع ذلك؟
الكتابة قضية إنسانية تغذّي العقل وتسعد القلب، أو تبكيه لتحرضه على المحبة، وكل ما يتبناه البعض أو يؤمن به، هو قضية البشرية التي تعشق المال والمكانة والشهرة، هذا التناقض الصارخ عند بعض الكتّاب والأدباء بين كتاباتهم من جهة، ومواقفهم وأفعالهم على أرض الواقع من جهة أخرى، يسيء جداً للأدب ويجعل الناس يفقدون الثقة بكل ما يكتب وينتج من الأجناس الأدبية، يبدو الكاتب أحيانا كالممثل الذي يلعب دور البطل الذي يكافح ويضحي وينتصر للحق والخير والعدالة والإنسانية، ولكن بعد أن ينتهي الفيلم، أو المسلسل، يخلع القناع ويظهر وجهه الحقيقي البشع، الفنان أو الممثل في العمل الفني حين يتقن دوره، سواء كان دور خير أو شر، ويتفاعل الناس مع الشخصية لدرجة حبها، أو كراهيتها فهذا يعد إبداعاً من الممثل، لكن في الكتابة الأمر مختلف تماماً.
الكتابة الأدبية ليست تمثيلا أو وظيفة، وأنت لست موظفاً تسعى لنيل رضى المدير، ولا هي طريق تسلكه لتصل إلى المكانة الاجتماعية والشهرة، أنت لست مجنداً لخدمة النظام لتصفق وتطبل له لتنال رضاه وعطاياه وتأمن شروره، لا تبرر جبنك وتخاذلك ونفاقك، الأديب تلميذ عاشق للإنسان الذي يسكن في داخله، منه يتعلم ويكتب، لفرحه يفرح ولحزنه ووجعه ومأساته يصرخ ويبكي ويقاوم، الكتابة الأدبية ثورة فكرية وثروة روحية، خروج من الذات وغوص في عوالم الأخرين، أحيانا هي جنون من نوع خاص.
نعم من حق الأديب أن يحصل على المال مقابل كتاباته الجيدة وإبداعه أحياناً، ولكن من النادر أن يجني من الكتابة ثروة وشهرة واسعة، ربما كان هذا في الماضي البعيد، أو إذا باع قلمه للسلطة المستبدة، كثيرة هي الطرق التي توصل الإنسان إلى المال والشهرة والكرسي والسلطة، السياسة والتجارة والتمثيل والغناء وكرة القدم.
الكتابة الأدبية قضية عادلة وصادقة، لا تلتقي أبداً مع الظلم والطغيان والقهر، لا تلتقي مع الذات التواقة للمال والشهرة، لا تتوافق مع قيود الخوف والرعب، أن تكتب عن الإنسان فهذا يعني عهداً ألَّا تصافح من يؤذيه أو يقتله.
كيف وماذا أكتب؟
أكتب والناس نيام وصراخهم يعلو، أكتب صرخات حزن وفرح وأمل.
الكتابة هي الناس الذين يتألمون، الناس الذين يقتلون أو يموتون قهراً، الذين يهربون من أحزانهم ويفرحون.
أجمعهم في أوراقي وأعيش معهم، نحزن ونبكي ونصرخ ونضحك معاً.
بعد كل هذه الحروب والطغيان والكوارث، لا يمكن أن تكتب دون أن تصرخ وتبكي
وترسم مئة علامة سؤال، وتقسم أنك ستقاوم.
في المحصلة ما زلت صديقاً للحياة، أحبها وتحبني، أعيشها برأس ممتلئ بالأدب والمقاومة، وقلباً يفيض حباً ومحبةً.