سيُؤخذ الكرد بعين الاعتبار وسيكون لهم دور ومكانة في الحكم في مشروع إعادة بناء الشرق الأوسط الجديد في القرن الحادي والعشرين، ولربّما لن يكون وفق ما يطمح الكرد إليه بالضبط، ولكن المهم أنّه ستكون لهم مكانة فيه.
فبعد 40 عاماً من الحرب التي كانت تقدّم فيها أمريكا والناتو جميع أنواع الدعم لتركيا إلّا أنّ تركيا رغم ذلك لم تتمكّن من القضاء على حركة حرية كردستان في شمال كردستان، والآن بعدما تبيّن أنّه لم تتمكّن تركيا من دحرها عسكرياً فلابد من أن تُستأنف المفاوضات مع القائد أوجلان في جزيرة إمرلي، وأن تكفَّ عن سياسة الإنكار وتعترف بحقوق الكرد المشروعة.
إن المستجدّات والتغيّرات في السياسة الأمريكية خلال السنتين الماضيتين حيال سوريا، من حيث إيقاف سحب جنودها من سوريا، كذلك الزيارات المكوكية لقيادات العسكريين الأمريكيين رفيعي المستوى في الآونة الأخيرة إلى شمال وشرق سوريا، إن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على حدوث تغيير في الاستراتيجية الأمريكية حيال سياستها الخارجية ولا سيما بخصوص سوريا، يبدو أنّ أمريكا قد استفادت من وراء التحالف مع قسد في مواجهة داعش ودحرها، لذا تريد الاستمرار في هذا التحالف إلى حين حدوث تغيرات في الوضع السوري واتخاذ خطوات عملية نحو الحل.
إنّ الكرد اليوم في موقع يُحسَدون عليه، فهم الأكثر تنظيماً وتدريباً في الأجزاء الأربعة من كردستان (تركيا والعراق وإيران وسوريا). فالمجتمع الكردي مجتمع متحضّر ومتطوّر ومنظّم سياسياً وعسكرياً، والثورة التي قامت في شمال وشرق سوريا بريادة المرأة برهنت ذلك على أرض الواقع، وانتفاضة جينا أميني “مهسا أميني” التي قادتها المرأة الكردية ونساء إيران وشملت معظم مدن إيران تحت شعار: (المرأة، الحياة، الحرية (Jin, Jiyan, Azadî)) في وجه الملالي من أجل الحرية والديمقراطية ما هي إلّا انعكاس لثورة روج آفا؛ من هنا تبرز أهمية ودور الكرد في ترسيخ الديمقراطية في هذه الدول التي يعيش فيها. فالكرد ليسوا قومويين ولا عنصريين ولا متطرّفين دينيّين مقارنةً مع الآخرين في المنطقة، وبإمكان الكرد خلق توازن استراتيجي بين هذه الشعوب في الدول الأربعة سابقة الذكر. لذا؛ يجب على هذه الدول ألّا تتخوّف من الكرد؛ فالاستماع إلى الداخل وحلّ القضايا الداخلية والمصالحة مع الكرد بالطرق الديمقراطية لا تضعف هذه الدول بل تعزّز من مكانتها وتقوّيها. وإذا ما تم اتّخاذ بعض الخطوات الجريئة بهذا الصدد ونال الكرد حقوقهم فإنّ هذه الدول ستصبح أكثر قوةً.
لذلك فأمريكا ستجد نفسها بحاجة ماسّة إلى الكرد، لا سيما إلى منظومة الأحزاب المتبنية لفكر وفلسفة القائد أوجلان وخاصةً حزب العمال الكردستاني (PKK) لأنّ فلسفة القائد أوجلان هي الأكثر تنظيماً وديمقراطيةً وعصرانيةً في الدول التي ذكرناها (تركيا، العراق، إيران وسوريا)، ويتطلّب ذلك من أمريكا أن تخطو خطوات جدية نحو حلّ القضية الكردية، بدايةً من رفع اسم حزب العمال الكردستاني (PKK)من لائحة الإرهاب لأنها حركة تحرر وطنية، ومن مصلحة أمريكا أن يكون الكرد إلى جانبها، فبإمكانها أن تضغط على تركيا لتتصالح مع الكرد وتعترف بحقوقهم؛ وحل إشكالية لوزان التي أنكرت حقوق الكرد والتي مضى عليها مئة عام وإيقاف هدر الدماء.
بخصوص هذا الموضوع فإذا ما تم فتح المجال أمام القائد عبد الله أوجلان وإطلاق سراحه في لعب دوره الهام، دعك عن حلّ المسألة الكردية، فبإمكانه حلّ جميع القضايا العالقة في الشرق الأوسط. لقد حصل تغيير كبير في وضع الكرد لاسيما وضع المرأة الكردية، فقد قطعت أشواطاً كبيرة في الريادة والطليعة، التمسنا هذا في انتفاضة المرأة الإيرانية تحت شعارها “المرأة، الحياة، الحرية” التي أخذت إلهامها من نساء شمال وشرق سورية، فوضع الكرد ليس كما كان إبّان الحرب العالمية الأولى بل قد تغيّر كثيراً.
سوف نرى كيف أنّ الكرد هم الذين سيحدّدون مصير سوريا مستقبلاً، كذلك فهم المرشّحون أن يتولّوا الريادة في التغيير والديمقراطية في سوريا وعلى مستوى الشرق الأوسط مستقبلاً. الجدير بالذكر أنّ مُبشّراً بريطانياً قبل مئة عام – إبّان الحرب العالمية الأولى – يقول في تقرير له إلى حكومته: “إنّ الكرد ضيّقوا الأفق، متعصّبون عشائرياً ودينياً، فهم ليسوا أرباب الإدارة وتسيير أمور الدولة.” لا ننسى أن بريطانيا عندما قسمت الشرق الأوسط اتخذت مصالحها في الدرجة الأولى ولم تسأل شعوب المنطقة فيما هم راضون عن هذا التقسيم أم لا. ولنفترض أن هذا الادعاء فيه نوع من الصحة، فنسأل هنا هل ما زال الكرد مثلما هم قبل مئة عام؟ بالطبع لا. الكرد قطعوا أشواطاً كبيرة في مسيرتهم في تنظيم أنفسهم نحو التقدم والتطور لنيل حقوقهم. هناك مقولة يرددها الكرد خلال العقود الثلاثة الماضية بين بعضهم “كُرديُّ اليوم ليس ككُرديّ الماضي”.
نرى أن القيادة الكردية الحالية ليست كالسابق، فهي ذات فكر عصري متنور، ولا ننسى أن الكرد استخلصوا الدروس والعِبر بما فيه الكفاية من الانتفاضات والحروب التي خاضوها خلال القرن الماضي، كما تعرّفوا على نقاط ضعفهم وقوّتهم، فها هم اليوم قد بنوا جيشاً بكل مكوناته يتجاوز مئة ألف مقاتل يقاتل تحت راية قسد، كذلك فإن الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا التي تستند إلى فكر الأمة الديمقراطية وإخوّة الشعوب تُدير ثلث مساحة سوريا بعربها وكردها وسريانها والتي يتجاوز عدد سكّانها خمسة ملايين.
حارب الكرد داعش والمجموعات المتطرّفة نيابةً عن الإنسانية جمعاء، وضحّوا بأغلى ما لديهم؛ حيث قدّموا إثني عشر ألف شهيد وعشرين ألف جريح، وبالتالي أوقفوا تمدّد داعش في سوريا والعراق وأنهوا وجودهم الجغرافي. حان الوقت كي يعترف المجتمع الدولي بحقوق الكرد المشروعة في أجزاء كردستان الأربعة، فاليوم قد وصل الكرد إلى مرحلة بإمكانهم إدارة أنفسهم بأنفسهم. بالرغم من احتلال الدولة التركية لثلاث مناطق في شمال وشرق سوريا، والهجمات شبه اليومية عليها، والحصار الجائر من قبل الدول المعادية للكرد فقد استطاعت الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا وعلى مدار 12 عاماً إدارة هذه المنطقة سياسياً واقتصادياً وحمايتها أمنياً وعسكرياً، وهذا بحدّ ذاته يُعتبَر من المعجزات (كما قالها نعوم تشومسكي) في ظل هذه المعمعة والأزمة المتفاقمة وحالة اللا استقرار السائدة في سوريا.