سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

لعنة الجيوبوليتيك للشرق الأوسط.. وجبال كردستان هي الحصن الحصين لأمن الدول العربية

حمزة حرب_

المعلوم أن العراق يمتلك أهمية استراتيجية كبرى في العصر الحديث والمعاصر باعتباره يشكل جيوبوليتيكياً قلب الشرق الأوسط القديم وبقي بهذه الأهمية حتى الوقت الراهن؛ وذلك بسبب عوامل عديدة، أهمها موقعه المتوسط في العالم، ووقوعه بين مجموعة من الدول، التي تستطيع أن تؤثر فيه ويؤثر فيها وهو ما جعله محط اهتمام الدول إقليميا وعالميا وكذلك ثرواته الطبيعية الهائلة، فهو إضافة إلى امتلاكه ثروات اقتصادية هائلة كثاني أكبر مخزون نفطي في العالم الذي يشكل عصب الحياة الاقتصادية العالمية، والمحرك الأول لواقع التجارة الدولية، وعمقا استراتيجيا كدولة متوسطة الحجم بمساحتها، فإنه يمثل عقدة جغرافية تربط الدول العربية بإيران وتركيا، الدولتان الأكثر تأثيراً في إقليم الشرق الأوسط قياساً لدول أخرى، كما أنه يشكل موقعاً متميزاً في العلاقات الإقليمية والدولية باعتباره حلقة وصل بري وبحري بين دول شرقي آسيا وأقصاها، ودول العالم الأخرى تجاريا واقتصاديا وهو ما جعله بموقع مغرٍ في العلاقات السياسية الدولية كلما تصاعدت قيمته تصاعدت المكانة السياسية للدولة، وهذه المعايير تنطبق الى حدٍ كبير مع واقع الحال في سوريا. لذا؛ نرى اهتمام دولة الاحتلال التركي الحالمة بإعادة امجاد العثمانية البائدة للسيطرة على هاتين الدولتين اللتين يعدان بوابة الدول العربية الشمالية، وهذه البوابة اليوم مهددة بالانهيار لولا المقاومة الكبيرة التي يبديها حزب العمال الكردستاني وجناحه العسكري قوات الدفاع الشعبي في جبال باشور كردستان التي تحاول دولة الاحتلال السيطرة عليها لتصل إلى “ولاية الموصل”، والتي ستنهار معها باقي المناطق ويصبح العمق القومي للدول العربية مهدداً بالسقوط بشكلٍ دراماتيكي.
العراق والأهمية الجيوبوليتيكية
الكاتب والصحفي البريطاني تيم مارشال يستذكر في كتابه “سجناء الجغرافيا”، ما دوّنه قيصر روسيا الخامس بطرس الأكبر في وصيته، من أن عليهم “الاقتراب كلما استطاعوا من القسطنطينية والهند، وأن عليهم إثارة الحروب باستمرار في تركيا وبلاد فارس، وأن عليهم أن يتغلغلوا حتى الخليج العربي، وأن من يحكم هناك سيكون صاحب السيادة الحقيقية على العالم”. ويبدو أن العراق هو البلد الذي ينسجم مع الشروط الجغرافية في وصية بطرس الأكبر.
وبناءً عليه قبل الخوض في تفاصيل أطماع دولة الاحتلال التركي يجب علينا فهم الأهمية الكبرى للمنطقة ككل، فلم يكن الشرق الأوسط يومًا بيئة مستقلة عن القوى الكبرى الحاكمة للنظام الدولي، فكل صراع عالمي ينعكس على هذه المنطقة ويعيد تشكيلها مرحليًّا.
ومع أن الشرق الأوسط لا يمثل سوى ثمانية بالمائة من إجمالي سكان العالم، فإن 67% من قتلى الصراعات يسقطون فيه، ونحو 43% من إجمالي النازحين في العالم يخرجون منه، كما تقع في هذا الإقليم المنكوب 50% من إجمالي الهجمات الإرهابية في العالم، ويسقط فيها نحو 60% مـن إجمالي ضحايا الإرهاب في العالم وكل ذلك بسبب الأهمية الجيوبوليتيكية ومصطلح جيوبوليتيك يعني في مفهومه المبسط هو تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة وهـو أحد العلوم التي تدرس تأثير الأرض (برها وبحرها ومرتفعاتها وجوفها وثرواتها وموقعها) على السـياسة في مقابل مسعى السياسة للاستفادة من هذه المميزات وفق منظور مستقبلي.
فاللعنة الجيوبوليتيكية هي من جعل الشرق الأوسط ساحة لا تكاد تنعم بالتهدئة حتى يختل توازنها مجددًا على وقع تحول حرج يثير الاضطرابات، فيعيد تشكيل سياسات المنطقة، ويمهّد الطريق أمام نشوب تحوّل حرج آخر، في دورة من إنتاج الأزمات لا تتوقف، إذ أصبحت أوقات الهدوء في المنطقة كفترات كمون تتجمع فيها العاصفة تحت السطح، انتظارًا لشرارة تُخرجها للعلن، لتصنع مفاجآت غير متوقعة في مسارات الأحداث، ولا سيما مع الفجوة المعرفية لدى صناع السياسات أو دوائر البحث، فما نعرفه عما يجري في باطن المنطقة من تفاعلات غير مرئية أقل بكثير مما نراه ونعرفه عن ظاهرها.
هذه المؤشرات الفوضوية لبيئة السلام الرمادي الشرق أوسطية، تنعكس بمجملها على العراق، لموقعه المتميز في المعادلة الإقليمية والدولية وهو ما يمكن أن نفسره بأن دول الإقليم الضعيفة المسلوبة الإرادة هي ساحة اشتباك وصراع لتحقيق مصالح القوى الفاعلة في البيئة الاستراتيجية العالمية، وهو ما ينطبق على العراق.
فللعراق أهمية استراتيجية كبرى، لموقعه الاستراتيجي، ومكانه بين دول متنافسة ومتطلعة إلى الهيمنة الإقليمية، ولتعدد الأعراق والمذاهب فيه، وتباين علاقات القوة التي سادت وحكمته منذ التأسيس وحتى اليوم، إضافة إلى امتلاكه ثروات طبيعية وتمثيله عقدة جغرافية تربط الدول العربية بالقوى غير العربية الفاعلة مثلَ إيران ودولة الاحتلال التركي.
لذا؛ فإن الجوار الجغرافي في البيئة الإقليمية عاملًا تكامليًّا، أو عاملًا تصارعيًّا بين الأطراف المتجاورة، وذلك حسب طبيعة العلاقات التي تنتهجها الأطراف، وبحسب طبيعة المحددات التي تنطلق منها السياسات وقوة تأثيرها. وبالنسبة للبيئة الإقليمية التي يقع فيها العراق، فإنها لا تخرج عن تلك القاعدة، إذ تحكمه مجموعة من العوامل والمحددات التاريخية والجغرافية والدولية والاقتصادية والثقافية.
الاقتصاد مقابل سيادة البلاد
مفهوم الشرق الأوسط في عصر الأقطاب المتعددة، وفي ظل تعامل دوله بصورة أكثر براغماتية لتحقيق مصالحها، الأمر الذي أفسح المجال أمام الصين وروسيا، لتزاحم الوجود التقليدي للولايات المتحدة في المنطقة، تحديدًا في العراق، الذي يمثل بعدًا استراتيجيًّا لدى مختلف اللاعبين الدوليين وهو ما تحاول دول إقليمية الاستفادة منه أيضاً لتحقيق أطماعها الاحتلالية في المنطقة من خلال سياسة اللعب على المتناقضات.
فكعكة الاقتصاد التي منحت للساسة العراقيين جعلتهم يتبعون سياسة النعامة أمام اعتداءات وطموحات نظام دولة الاحتلال التركي التي يحضر العراق في التفكير الاستراتيجي لها، فحضوره لا يقتصر على تأثيره وارتداده على الداخل التركي، بل يرتبط كذلك بالأطماع التاريخية التي يطالب بها نظام دولة الاحتلال في العراق، كقضية الموصل وحقوق التركمان أينما وجدوا فهي تبحث عن أي خرم إبرة لتحقق ما تعده على لسانها حقوقا تاريخية في الأراضي العراقية وباشور كردستان هي السد المنيع أمام هذه الاعتداءات.
بالعودة للاقتصاد وتأثيره على السياسة؛ يرى مراقبون أن مشروع طريق التنمية الذي يضم تركيا والإمارات والعراق، والذي توليه تركيا أهمية قصوى إذ سيغير مسار التجارة البحرية العالمية ويقدّر تكلفة المشروع بنحو 17 مليار دولار، ومن المتوقع أن يكتمل مع حلول عام 2028. حيث يمر الطريق داخل الأراضي العراقية بطول 1200 كيلومتر، ويشمل طريقًا بريًّا وسكة حديدية، ويربط بين طرق التجارة من آسيا ودول الخليج جنوبًا حتى ميناء الفاو في محافظة البصرة بجنوب العراق، ثم ينطلق شمالًا حتى يصل إلى مدينة أوفاكوي التركية الحدودية، ومنها إلى الأسواق الأوروبية.
لذلك، تتحرّك تركيا حاليا بسياسة عدائية لتضرب أكثر من عصفور بحجرٍ واحد فهي تسوق أسطوانة الأمن القومي المشروخة للعالم فيما تبحث عن أطماع تاريخية متمثلة في السيطرة على كركوك والموصل إلى جانب الإنشاءات الخاصة بمشروع التنمية، وهو ما يفسر الكم الهائل من قواتها داخل الأراضي العراقية وأراضي باشور كردستان علمًا بأن عدد القوات التركية الموجودة في العراق يفوق القوات الأميركية، وهو في حدود سبعة آلاف جندي.
وتمسك دولة الاحتلال بعدة أوراق تشهرها في وجه ساسة العراق وساسة باشور وعلى رأسها التغاضي عن الاعتداءات والأطماع مقابل قضية المياه، إذ إن الاحتياطات المتوفرة من المياه في الخزانات العراقية، التي تصل إلى سبعة مليارات ونصف متر مكعب وفقًا لإحصائيات عراقية رسمية، وذلك من أصل 150 مليار متر مكعب من الطاقة الاستيعابية.
وهذه الاحتياطات تقترب من النضوب؛ ما قد يؤدي إلى كارثة غير مسبوقة تجعل مياه الشرب شيئًا نادرًا من ناحية، ومن ناحية أخرى تجعل العراق سوقًا رئيسًا لتركيا في المياه والمشروبات. فهذا المشروع سيقطع الطريق أمام الممر الهندي البديل لمشروع الحزام والطريق الصيني، كما لا تدعم إيران المشروع الذي من شأنه تعزيز الاستقلال الاقتصادي للعراق، وجعل دولة الاحتلال التركي لاعبًا مهمًّا جدًّا في طريق التجارة البحرية العالمي. لذا؛ تحاول دولة الاحتلال إيهام الساسة العراقيين بمستقبلٍ واعد اقتصادياً مقابل السماح لها بتحقيق أطماعها في الأراضي التاريخية للكرد في كردستان لكن ما لا يحاول إدراكه الساسة العراقيون أن أراضي كردستان هي الحصن المنيع أمام وصول دولة الاحتلال بعثمانيتها الجديدة إلى الموصل وكركوك وربما بغداد والبصرة.
الدول العربية في مرمى المطامع التركية
حقيقة ما يجري على الأرض هو أن دولة الاحتلال التركي باتت أكبر مهددٍ للأمن القومي العربي خصوصاً مع طغيانها في استباحة حقوق الكرد المتعايشين على أرضهم التاريخية كردستان، التي تعد البوابة الشمالية الشرقية للدول العربية وذلك من خلال نوايا المحتل التركي الخبيثة وتدخلاتهما العلنية ودعمهما بالمال والسلاح للمرتزقة والجماعات والمليشيات الإرهابية لنشر الفرقة والفوضى وتحقيق أطماعها وأجندتها التوسعية.
سياسة المحتل التركي تبرهن أن ما تقوم به في دول المنطقة لا علاقة له بأمنها القومي كما تدعي فغزوها العسكري لليبيا وتدخلاتها السافرة في شمال سوريا وشماله الشرقي والعراق وباشور كردستان، واستمرار تجاوزاتها بحق مصر، وتونس والصومال، ودعمها للتنظيمات الإرهابية وتجاوزاتها الصريحة للأعراف الدبلوماسية والمواثيق الدولية، وتهديد مباشر لأمن دولة عربية، وانتهاك صارخ لمبادئ الأمم المتحدة واحترام سيادة الدول.
فهذا لا يمكن وصفه، بحسب مراقبين، إلا المواقف العدائية ضد دولة عربية، فالحقيقة هي أنه لا يخفى على أحد ما تعانيه دولة الاحتلال التركي حاليًا من أزمات داخلية وخارجية متصاعدة إضافة إلى خسائرها وأعباء تدخلاتها العسكرية في الدول العربية، والتي أدت إلى بروز أزمة سياسية واستياء شعبي ضد الحزب الحاكم الذي  يحاول الخروج من المأزق الذي وصل إليه من خلال تصدير أزماته إلى الخارج وتحقيق مكاسب على حساب مقدرات الشعوب العربية والكردية، إضافة إلى تحقيق الحلم التركي الذي يسعى إلى إحياء الأطماع العثمانية في المنطقة.
فإن تمدد دولة الاحتلال التركي لا يوجد اليوم من يقف في وجهه إلا قوات الدفاع الشعبي في جبال كردستان لأن دولة الاحتلال تريد من خلال هذه السياسات أن توجه مسارين للعالم أولهما، أن دولة الاحتلال تود أن تقدم نفسها لنظام الهيمنة العالمية على أنها وبتدخلها سوف يتم تحجيم النفوذ الروسي والإيراني والصيني، ومن ثم تسعى لتحقيق مشروعها الخاص من خلال التدخل، وهي ارتكاب إبادة جماعية ضد الكرد في كردستان وجبالها الشاهقة لتفتح ثغرة تتمدد من خلالها تجاه الدول العربية وتعيد القرون الأربعة من الزمن التي حكمت فيها هذه الدول بأدوات العثمانية.
وعليه نجد أن تركيا وكما يشير الكثير من المراقبين أن اهتمامها بالدول العربية وبمحيطها والمنطقة مقلق ويشكل عامل توتر واضطراب، بل هو محاولة لإعادة العثمانية بصيغة جديدة ومع مراقبة التحركات والتدخلات لدولة الاحتلال في شؤون الدول العربية والمنطقة واحتلالاتها لبعض المناطق، وحتى عواصم بعض الدول العربية ولو بشكل فعلي، هو تهديد تعاظم وكبر ضد الأمن القومي العربي وبل أن الخطورة مستمرة في المرونة والتكتيك الذي تبديه تركيا لتجاوز بعض الظروف الضاغطة و لإعطاء انطباع مخادع ومضلل أن تركيا تخلت عن حلمها العثماني وتبحث عن حلمها في الحفاظ على امنها القومي.
فاليوم جبال كردستان في حقيقة الأمر هي الحصن الحصين لأمن الدول العربية سيما مع هذا الدور الاحتلالي وخطورة مشروع دولة الاحتلال التركي، فلا ينبغي ترك الكرد منفردين يقفون في وجه الممارسات الاحتلالية، وينبغي، حسب مراقبين، تشكيل التحالفات اللازمة والمناسبة لمواجهة التهديدات التي ينفذها الاحتلال وخلق حالة من صيغ العمل المشترك بين الكرد والعرب كما هو الحال في نموذج شمال وشرق سوريا على سبيل المثال، إلا أن هذا التعايش المشترك ووحدة المصير وقوة الاتحاد تحتاج إلى توسيع دائرة هذه التحالفات لتشمل الشرق الأوسط ككل بكافة شعوبه ومجتمعاته ودوله لتأمين منظومة مستقرة للأمن تحقق تطلعات المنطقة بالحرية والكرامة والتآخي.