كنت أعتقد أن الهجوم الأخير على إدلب من القوات السورية والطيران الروسي، هو من ضمن اتفاقات آستانا وسوتشي التي رسمت حدود التدخل للسيطرة على الطرق الدولية، وتركت لدولة الاحتلال التركي فرصة التخلص من جبهة النصرة أو تحجيم دورها، ولم تجدِ محاولات دولة الاحتلال التركي رغم استهداف قيادات للنصرة بالاغتيال المباشر، وعن طريق العبوات الناسفة، فالنصرة تمددت على حساب الفصائل التي تتحرك بأوامر مباشرة من تركيا. وأعطيت تركيا مهلة جديدة، فاستأنفت تهديدها لمناطق شمال وشرق سوريا كثمن تواطأ على تقديمه حلف آستانا واستجاب له الأمريكي لتجنب صدام عسكري مع تركيا، وحصلت على مقابل في منطقة سمتها “نبع السلام”. ولكن؛ إدلب بقيت بلا إنجاز، حتى بدأت القوات السورية والطيران الروسي عملياتهما الأخيرة، وبموافقة ضمنية من تركيا، ولولا استهداف نقطة تركية وسقوط قتلى أتراك لمرت المحاولة بسلام وبقليل من التصعيد التركي والتهديدات الضائعة في الهواء.
إن الرد التركي على استهداف جنوده بقصف على القوات السورية، والحديث عن عشرات القتلى؛ هو لتهدئة الدعوات من الخصوم والشركاء، الذين طالبوا برد حاسم، فالزعيم القومي دولت بهجلي رئيس حزب الحركة الوطنية التركي، دعا أردوغان صراحة إلى “غزو دمشق وتدمير إدلب وحرق سوريا” انتقاماً من النظام السوري، وذهب لأبعد من ذلك مُحمِّلاً روسيا مسؤولية دماء الجنود الأتراك الذين قُتلوا في سوريا؛ لأنها “تُهيئ المناخ لجرائم النظام السوري”، ودعا الحكومة التركية لإعادة النظر في علاقاتها مع موسكو التي “تحاول السيطرة على سوريا وعلى تركيا أيضاً”؛ عبر الاتفاقات الدبلوماسية في آستانا وسوتشي والتي لم تجنِ منها تركيا فوائد تُذكر. ولكن؛ الرد الذي حصل هو لذر الرماد في العيون وللحفاظ على ماء الوجه، وكان متوقعاً أن يبقى في حدوده الدنيا، فالاتفاقات الروسية التركية أكبر من أن تغيرها خسارة مناطق في إدلب وحلب متفق عليها مسبقاً، فإن المصالح المشتركة ما بين موسكو وأنقرة لا يمكن أن تقضي عليها خلافات يمكن حصرها في أضيق نطاق، فحدود الاتفاقات بينهما أصبحت حيوية واستراتيجية، ومتقدمة على مصالح تركيا مع أمريكا وحلف الناتو، الذي تراه تركيا عند حدود الدعم اللفظي، ولا تنتظر منه مساندة تذكر، إلا الدفع لخلاف قد يجعلها تصبح وحيدة ومكشوفة في أية مواجهة مع روسيا. وتركيا بعد أن نجحت روسيا باستقطابها إلى جانبها، والابتعاد بها عن حلفها القديم مع الناتو وأمريكا؛ تهتم بتقديم المصالح الاقتصادية، حيث بلغ عدد السياح الروس في تركيا بالملايين. وروسيا تزودها بأسلحة رفضت أمريكا تسليمها لتركيا، مثل “إس 400” وهناك التعاون والاتفاقيات في مشروع بناء محطة للطاقة النووية، ومشروع السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا. والتبادل التجاري الذي وصل إلى 26 مليار دولار، ومتوقع أن يصل إلى 31 مليار دولار العام الجاري.
وموسكو تستخدم تحالفها مع أنقرة لتوظيفه في تنافسها مع أمريكا وبغاية إخراجها من سوريا أو إحراجها لتستفرد في ضبط التوازنات والسيطرة على مسار الحل الذي تراه في سوريا، بإخضاع المعارضة وتطويع مواقف النظام والتحكم بإدارة الملف السوري، تقايض فيه من أجل مصالحها مع الدول الإقليمية، وفي القضايا الدولية الكبرى.
تركيا ماتزال تتحسس من الموقف الأمريكي الذي لم يستجب لطلباتها بالتخلي عن دعم الكرد في سوريا واستمرار آلاف الشاحنات التي تحمل المعونات والسلاح لمناطق شمال وشرق سوريا، وتتحدث عن عدم تسليمها فتح الله كولن المقيم في بنسلفانيا الذي تتهمه بالتخطيط للانقلاب في تموز 2016 ولم تجد زيارة المبعوث الأمريكي للشؤون السورية جيمس جيفري إلى أنقرة والمغازلة الواضحة لتركيا واللعب المكشوف على وتر الخلاف بين أنقرة وموسكو بتقديم التعازي للشعب التركي في وفاة الجنود الأتراك الذين وصفهم بـ “الشهداء”، وتأكيد دعم واشنطن الكامل للمصالح التركية في إدلب.
سيتجنب الطرفان التصعيد، وسيصلان إلى تفاهم مؤقت لمصلحة قد تترسخ استراتيجياً كلما ابتعدت تركيا عن واشنطن. ولكن؛ الحل في سوريا قد يؤدي إلى تباعد بينهما. لذلك؛ فإن التوتر المستمر يعطيهما فرصة لمزيد من التفاهمات، وما لم تقدمه أمريكا في شمال وشرق سوريا؛ ستقدمه روسيا لتركيا؛ لأن حلف آستانا وسيلتها للضغط لإخراج أمريكا والسيطرة على المناطق النفطية، مقابل تحقيق حلم أردوغان في العودة إلى تحقيق الميثاق الملّي وهذا ما يجب التحذير منه والعمل على منعه بشتى السبل. وعدم التعويل على خلاف بينهما.