“عندما تقف ابنتي ستيسي وتلوح بيديها في الهواء وتصرخ “لا” بأعلى صوتها، فكأنما يعود الزمن بي إلى الوراء وأستشعر ثانيةً غضب أمي، حيث أذكر بوضوحٍ صيحاتها المتكررة عليّ والصفعات التي كانت توجهها لوجهي من حين لآخر، ولقد كان شعوراً فظيعاً، فكم كرهته. وعندما تصرخ ستيسي، أشعر وكأنها أمي, فيغمرني الخوف والغضب من جديد!”.
قابلتُ امرأةً منذ عدة سنواتٍ تُدعى “بريندا”، وكان هذا تعليقها حول نقاشنا عن سبب سعيها لطلب المساعدة، إذ وصفت شعورها بالانهزام العاطفي والجسدي في لحظاتٍ كتلك، وكانت نغمة صوتها تدلّ على خوفها من فقدان السيطرة، وكذلك تعابير وجهها وتوتر جسدها. ولحسن الحظ أن بريندا قَدِمت لطلب المساعدة، حيث أنها كانت على وشك صفع ابنتها ذات الثلاثة أعوام.
كانت بريندا واقعيةً وواعيةً تماماً لحقيقة أن ستيسي ليست أمها، غير أنّ للعقل العاطفي قدرةً محدودةً على استيعاب مرور الزمن، فقد تظل رواسبٌ من جراح الماضي عالقةً بهِ بغضّ النظر عن مقدار ذكائنا أو تقدمنا في العمر، والأمر متأصلٌ في طريقة عمل فيسيولوجية أجسادنا، حيثُ تُصبح حسّاسةً بشكلٍ مفرطٍ لأيّ تهديدٍ مُحدقٍ بمجردِ تحفيزها بجرحٍ ما.
اعتقدت بريندا أنها تخطت جرحها وتصالحت معها منذ زمنٍ بعيد، وقالت لنفسها أنها غفرت لأمها اعتداءاتها ولأبيها عدم حمايتها من تلك المعاملة، ولكنها أدركت بعد ذلك أنّ أمها قد عانت في طفولتها أيضاً على يدي أمها. وأدركت بريندا أثناء جلسات العلاج أن تفهّمها وتعاطفها مع معاناة أمها ليسا كافيين لعلاج جرح طفولتها، إذ لم تنجح في إدراك حقيقة أنّ الشفاء الحقيقيّ يكمن في مواجهةٍ تامةٍ للصدمة المتأصلة داخل عمقها العاطفي.
تشبه بريندا العديد من الأشخاص الذين عملت معهم سابقاً ممن هم عرضةً للغضب، وبرغم أنها قد تعلمت بعض الاستراتيجيات للتحكم بغضبها في حالاتٍ مختلفة، إلا أنّ ردة فعل ابنتها تضغط وبشدةٍ على نقطة ضعفها. وكالكثير ممن هم معرّضون للغضب، لم تصبح بريندا “مُقرّةً” بجرحها بعد، فلم تكن أبداً متعاطفةً تماماً أو متحققةً من ألمها المُرهق والمُربك بشدةٍ والذي أثارته تلك الجروح.
الانتهاكات تسحق روح الإنسان:
نأتي هذا العالم مُقبلين على الحياة، يملؤنا الفضول، ومنفتحين على الحب عطاءً وأخذاً. فنأمل من خلال علاقاتنا بالآخرين إشباعَ رغبةٍ بداخلنا بأن نرضي الآخرين ونكون جزءً من مجموعة، وهي رغبةٌ تستند جزئياً على الحاجة للحماية، الأمان، والدعم، حيث يعزز ارتباطٌ كهذا من شعورنا المشترك بالإنسانية ويُعدُّ ترياقاً لمشاعر العزلة. وما زلنا نشعر بهذه الحاجة كبالغين، إلا أننا كأطفال كنا نعتمد كلياً على تلقي التعاطف والحب والشعور بالأمان ممن يرعانا، ما يمثل كل أنواع الدعم العاطفي الذي نحتاجه لنُزهر.
لسوء الحظ، غالباً ما يمر الكثير منا بصدمةٍ عاطفيةٍ ما، سواءً كان بشكل اعتداءٍ جسديٍ أو عاطفيٍ، وأسميه “اعتداءً” لأنه سواءً صنفته إدارة خدمات الطفل والأسرة كإهمالٍ وإيذاء أم لم تفعل، فإن هذا الاعتداء يسحق روح الإنسان، فتلك تصرفاتٌ خائنةٌ تدمر ارتباطنا المبكر والأساسيّ الذي يُعتبر قاعدةً لصحتنا العاطفية.
عندما نناقش تلك الانتهاكات سواءً كانت ضرباً على المؤخرة، صفعاً على الوجه، ضرباً على أماكن أخرى من الجسم، أو إيذاءً عاطفياً، أجد أن كثيراً من عملائي يشتركون في تعليقاتٍ من قبيل: “هذا ما كان يفعله الوالدان في ذلك الزمن”، “كنتُ مستحقاً لذلك”، “كان حريصاً على أن أصبح شخصاً أفضل فقط”، “حسناً، هي لم تعرف وسيلةً أفضل من تلك”، “لم يحدث ذلك كثيراً”، “لم تكن بتلك الصعوبة”، “لم يكن وكأنه إيذاء”، أو “يحدث فقط على فتراتٍ متباعدة”. وكثيرٌ ممن كانوا مُهمَلين قالوا: “كنت أعلم أنّ أخي أكثر حاجةً للاهتمام”، “ماضٍ وانتهى”، أو “أعلم أن أبي كان مكتئباً (أو مشغول البال أو أياً كان ما جعله جافاً عاطفياً)”.
تُصبح ردود الفعل تلك منطقيةً جداً عندما ننظر إليها بعين طفولتهم، حيث تدسُّ هذه الانتهاكاتُ رسائل من قبيل: “أنت لا تنتمي إلينا”، “لست أهلاً لذلك”، “لا تستحق حبنا”، “أنا حقاً لا أحبك”، “لا نأبه لمشاعرك”، “أنت مُعيب”.
تبعاً لذلك، قد تكون ردة فعلنا كأطفال على تجاربٍ كهذه باستصغارها، إنكارها، أو كبت ألمنا وأيّ غضبٍ يمكن أن يثيره، وبذلك نحمي أنفسنا من القسوة والتشويش المحيطان بمعاناتنا، إذ أن الأشخاص الذين اعتمدنا عليهم كلياً ليشعرونا بالأمان أفقدونا إياه بذاتهم. فحتى أصغر رجفة غضبٍ قد تكون مهددة جداً في حالاتٍ كهذه، فكيف بإظهاره؟ لذا قد يكون الحل الأمثل هو أن نخفي غضبنا عن الآخرين وعن أنفسنا.
هذه الوسيلة قد تكون أفضل حلٍ لمواجهة التوتر الحاد المرتبط بالمشاعر المتناقضة والمختلطة، فالاعتراف بهذه المشاعر وتقبلها أمرٌ صعبٌ جداً أساساً بالنسبة للبالغين، ناهيك عن الأطفال الذين يشعرون بالتهديد، والذين ليسوا مهيئين عاطفياً لمواجهةٍ كهذه.
قد نحمي أنفسنا من معاناتنا من ناحيةٍ أخرى بأن نحفّز صوتاً داخلياً ناقداً يؤكد “هم على حق، إنها غلطتي”، إذ تساهم هذه المحادثة الداخلية في حاجةٍ قهريةٍ للكمال في محاولةٍ لتعويض المشاعر المسببة لهذه المعاناة كالخزي والنقص، يُعدّ توجيه الغضب للداخل أحد طرق التعامل مع فوضى المشاعر والإحساس العميق بالضعف المصاحب للمعاناة التي نعيشها.
من المفهوم أننا نميلُ كبالغين إلى كبح أنفسنا من الحضور كلياً أثناء تعاملاتنا، في حين أننا نُجري فورياً محادثةً داخليةً مدفوعةً بإحساس عدم الثقة الذي وُلّد نتيجةً لتجاربنا السابقة، فالتعرّض السابق للانتهاكات قد يدمر الثقة في أكثر العلاقاتِ حباً، وفقدان الثقة يقوي مخاوفنا من الهجر، الرفض، أو أيّ نوعٍ آخرٍ من الخيانة. ومن المحتمل أن يؤثر هذا الكبت على طريقة تعاملنا مع الحياة عموماً، وستجده تحليلاً منطقياً عندما تنظر إلى ذلك بعدسة تطوّرية، فبمجرد شعورنا بالتهديد أو فقدان الأمان سنصبح حذرين بشدةٍ لأيّ تهديدٍ مُحتمل. ونتيجةً لذلك، قد نستشعر التهديد في أبسط الأمور ونتوقعه حتى عندما تكون درجة التهديد غير واقعيةٍ أو حتى غير موجودة.
تظلّ تلك المشاعر قيداً في معصم كل بالغٍ لم يتصالح معها، فمن السهلِ أن نفهم أنّ الغضب هو أول شعورٍ قد يتبادر إلى أيّ منّا كردة فعلٍ للضغوط النفسية سواءً في مقر العمل، العلاقات الشخصية، أو الحياة اليومية. وقد يُهيّج بعض الأشخاص في العقل العاطفيّ ألماً وغضباً لحظياً، سواءً كان سائقاً تعدى عليك أثناء سيرك، أو خلافك مع شريكك، أو انتقادات رئيسك في العمل. فقد تشارك كلٌّ من هذه الأحداث في استخراج أسس ماضيك الهشة، مما ينجم عن سيلٍ من التهديد الذي ينعكسُ كمبالغةٍ في شدة رد فعلنا.