روناهي/ منبج ـ لا شك أن ما تمرُّ به مناطق شمال وشرق سوريا من تحديات سياسية ساخنة؛ لا تزال تُلقي بظلالها على الناحية الاقتصادية التي دخلت مع ذكرى ثورة 19 تموز منعطفاً كبيراً لا سيما على شعوب المنطقة التي وقعت ضحية المؤامرات السياسية للدول الإقليمية خاصة الاحتلال التركي، في ظل مقاومة تاريخية من قِبل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي تعمل على توفير أنسب معدلات للحياة الكريمة عبر تمسكها بالثوابت والقيم الوطنية.
لقد كان لثورة 19 تموز أثراً كبيراً في تحرر الاقتصاد من الطابع المؤدلج القائم على تحقيق الربح الأعظمي لفئة محدودة من المجتمع. وتمكنت بدلاً عن ذلك طرح مفاهيم ورؤى جديدة قائمة على أولويات الإصلاح الاقتصادي ومتوازنة مع بعضها البعض ضمن مصلحة المجتمع عامة، وفي كل الاتجاهات دون توقف أو دون التركيز على جهة دون أخرى، فالاقتصاد المجتمعي قبل “انتشار فيروس كورونا في العالم” مختلف عن ما بعد “كورونا”، وما نتج عنه، قراءةً للمستجدات السياسية بعين اقتصادية للوصول إلى حيثيات الأزمات، والتي نجم عنها أيضاً؛ تشكيل خلية أزمة اقتصادية إلى جانب تعزيز القطاع الزراعي خاصة المرتبط بقوت الفلاحين ودعم شريحة المواطنين جميعاً وإيجاد فرص عمل جديدة تلبية لاحتياجات بيئة الأعمال المختلفة.
الأزمات لا تأتي فرادى
دخل الاقتصاد في مناطق شمال وشرق سوريا مرحلة جديدة من بعد ثورة 19 تموز في العام المنصرم إثر غزو الاحتلال التركي لمناطق سري كانيه/ رأس العين؛ وكري سبي/ تل أبيض الذي شكل عاملاً هاماً في إجهاض البنية التحتية للاقتصاد وأهمها؛ سيطرتهم على محطات لضخ المياه في علوك وسرقة مطاحن عين عيسى من جهة إلى جانب تأثير جائحة كورونا التي أدت إلى توقف العديد من المنشآت والمعامل عن الإنتاج من جهة أخرى. أما أهم التحديات على الإطلاق، فكان تحت تأثير عاملين اثنين: أولهما؛ فقدان العملة السورية للقوة الشرائية مقابل سعر صرف الدولار الذي تجاوز في شهر حزيران من العام الجاري حدود الأربعة آلاف ليرة سورية مقابل الدولار الواحد في حين كان في الفترة ذاتها من العام المنصرم في حدود الخمسمئة ليرة سورية للدولار الواحد. وبالتالي، يكفي للمواطن أن يعيش المرارة والغصة لا سيما مواطني الدخل المحدود والعمال المياومين الذين عاشوا ارتفاع سعر المعيشة في الحدود الدنيا إلى قرابة المئة ألف ليرة سورية؛ وقلة فرص العمل بسبب ارتفاع تكاليف التصنيع والإنتاج؛ كمادة الأعلاف مثلاً التي أثرت بشكل كبير على ارتفاع سعر اللحوم والأجبان وغيرها من المنتجات الأخرى. وثاني العوامل؛ دخول قانون قيصر حيز التنفيذ الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية في السابع عشر من الشهر الماضي وبشكل خاص على المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية الأمر الذي تجلى تأثيره في ارتفاع أسعار الآلات الصناعية المستوردة؛ مما أجبر أصحاب المنشآت على رفع سعر المنتجات بشكل عام.
رؤية اقتصادية أكثر موضوعية وملاءمة للواقع
لا يمكن النظر للاقتصاد في شمال وشرق سوريا دون النظر في الأيديولوجيا المفتوحة لا المغلقة التي اعتمدت على رؤية تتلاءم ومعطيات الواقع وتحقق المنفعة لكل الفئات الاجتماعية. النقطة الأهم في هذا الميدان، قلب المعادلة الاقتصادية وما تقوم عليه من مقومات للاقتصاد ووسائل إنتاج وناتج ربحي يتم في أروقة المجتمع لا في أروقة الدولة واقتصاد الظل في السابق. فالاقتصاد المجتمعي، هو الذي يسعى إلى وضع تلك المعادلة في مصلحة المجتمع بما تعود فائدته عليهم جمعياً. وهناك حقيقة أن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا أدركت الحقيقة القائلة “لا اقتصاد.. بلا حيوية” والحيوية تعني؛ الذهنية، وبالتالي، فإن وضع الثقل على جهة واحدة أو مؤسسة واحدة أو شخص واحد، سيعطي بكل تأكيد نتائج خاطئة حتماً. فالأسلوب الأصح، هو أن تتمكن هذه الإدارة من قراءة الأحداث بالشكل الذي يتناسب مع الأوضاع السياسية والاجتماعية المتغيرة وصيرورتها بين الفينة والأخرى. وهذا ما تتضح ملامحه وأبعاده في كل حادثة ملمة تؤثر على قراءة المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ كتشكيل خلية أزمة على أثر مخاطر انتشار جائحة كورونا. بينما هذه القراءة الاقتصادية قد لا نكاد نراها إلا في مناطق شمال وشرق سوريا، فمناطق الحكومة السورية تقبع تحت حكم الذهنية السلطوية مدة تسع سنوات من الحرب، بينما مناطق سيطرة مرتزقة الفصائل المسلحة، فتحكمها الذهنية المتشددة القائمة على السرقة والنهب، وبالتالي شتان بين قراءة المشهدين.
القطاع الزراعي أساس تخطي الأزمات الاقتصادية
إن القطاع الزراعي ما قبل ثورة 19 تموز مختلف تماماً عما بعده، لا سيما وأنه قطاع متداخل مع كثير من القطاعات الأخرى، وبالتالي، فإن نجاحه وتطويره يؤدي إلى تطور هذه القطاعات سواء الصناعية منها أو التجارية. وهذا يعني زيادة دوران العجلة الاقتصادية، وتحقيق مستويات عالية من الأمن الغذائي. ولا شك أن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كانت بعيدة النظر حين أولت هذا القطاع اهتماماً بالغ الأهمية، حيث عملت على اتخاذ حزمة من القرارات لدعم الزراعة، ومنها توزيع مادة المازوت على الفلاحين بكميات تتراوح ما بين الـ 800 – 1000 لتر للهكتار الواحد. كما وزودت الصيدليات الزراعية بكافة مناطق شمال وشرق سوريا بتوزيع الأسمدة والمبيدات على الفلاحين بسعر مدعوم. إذ؛ يقدر سعر اللتر الواحد من المبيد الحشري قرابة 3500 ليرة سورية، ويحتاج المحصول الزراعي من المبيد الحشري إلى لترين اثنين. فيما تقدر كمية السماد الآزوتي التي توزع على الفلاحين بـ 25 كغ للهكتار الواحد في حين تصل مخصصات السماد حتى نهاية الموسم الزراعي إلى 250 كغ لكل هكتار. والجانب الأهم، أن كميات القمح المسوّقة إلى مراكز الاستلام المخصصة في مناطق شمال وشرق سوريا بلغت نحو 450 ألف طن بنوعيه القاسي والطري في محاولة جادة من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لسد احتياجات تلك المناطق من مادتي البذار الزراعي والطحين. وكانت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا قد حددت سعر كيلو القمح الواحد بـ 17 سنتاً من الدولار الأمريكي، ويتم تسليمها بحسب سعر صرف الدولار عند استلام الفاتورة.
إن القراءة المتأنية للقطاع الزراعي بكل تفاصيله الدقيقة، تؤكد بما لا يدعو للشك أن هناك عملاً جباراً من قبل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في سبيل تحقيق تأمين استدامة للأمن الغذائي يضمن حد أدنى من مادة الخبز الذي يشكل القوت الرئيس لمناطق شمال وشرق سوريا. بينما بقيت المناطق الواقعة تحت سيطرة الفصائل المسلحة تحت فضيلة السرقة والإغارة والنهب على ممتلكات الشعب، كما حدث في سرقتهم لصوامع حبوب عين عيسى. أما مناطق سيطرة الحكومة السورية، فهي الأخرى ليست بأفضل حال من سابقتها، تعيش حالة هستيريا من تقنين كبير على مادة الخبز الذي يباع هناك بموجب البطاقة الذكية.
أين المواطن مِن كل ما يجري؟
طيلة سنوات الحرب لا ينفك المواطن السوري عن التفكير ولو بلحظة واحدة عن مصدر رزقه، وقوت يومه الذي بات عند البعض فاقداً إياه بعد الدمار الكبير للبنية التحتية للاقتصاد السوري، وبالأخص تلك المناطق التي لم ترَ نور ثورة 19 تموز، حيث عانت من تقطيع أوصال المدن بين بعضها البعض وانهيار المقومات الأساسية للاقتصاد نتيجة استمرارها لا سيما مع غياب أفق الحل السياسي. المواطن السوري دخل الصراع مكرهاً بسبب الاعتماد على ذهنية الآلة العسكرية في حسم سيطرته للنزاع بينه وبين المرتزقة؛ ما يعني تهديده فرص الوجود والأمن والعمل خاصة وأن سوريا وقعت تحت كماشة قانون قيصر المفروض من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. إن آثار قانون قيصر تبدو واضحة على معيشة المواطن السوري في قدرته على تأمين أدنى مستويات المواد الغذائية التي بلغت مستويات غير مسبوقة من الغلاء الذي لم يقتصر على ذلك فحسب، بل أتى قانون قيصر كالرماد على الهشيم، فلم يُبقِ ولم يذر شيئاً أمامه إلا وزاده أضعافاً مضاعفة عما كان من قبل؛ بسبب آفاق الحوار المسدودة أدى ذلك إلى وصول سعر صرف الدولار مقابل الليرة سورية إلى نحو 2300 ليرة سورية حالياً. أما مع انطلاق ثورة 19 تموز، فقد تغيرت المعادلة رأساً على عقب، حيث تمكنت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من توفير مادة الخبز بسعر 100 ليرة سورية منذ أن تم تحرير معظم مناطق شمال وشرق سوريا من رجس الإرهاب، ولا يزال هذا السعر معمول به حتى الآن. اللافت في الأمر أن سعر الخبز بالمناطق المجاورة يصل إلى نحو 310 ليرة سورية لربطة الخبز الواحدة، حيث يضاف إلى سعر التكلفة أجور الدقيق والخميرة والملح والأكياس والمازوت وغيرها. كما تقوم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بتوزيع مادة التدفئة على المواطنين بكمية قدرها 440 لتر دفعة واحدة بسعر 16500 ليرة سورية للبرميل الواحد، أما في مناطق أخرى من سوريا فيصل سعر البرميل الواحد إلى نحو 40 ألف ليرة سورية.
إن مقارنة بسيطة للواقع الاقتصادي الذي يعيشه المواطن السوري في مناطق شمال وشرق سوريا وبين مناطق أخرى من سوريا؛ تضع المتتبع أمام مجموعة من النقائض والمتضادات الاقتصادية الشائكة لمعرفة حجم المقدم من قبل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا للمواطن من خدمات كثيرة ليس آخرها؛ افتتاح جمعيات ومؤسسات استهلاكية لتخفيف حدة الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
للعاملين حصة من دعم الاقتصاد
بعد ارتفاع الدولار مقابل الليرة السورية، وارتفاع تكاليف الحياة الباهظة، بدت الحاجة أكثر إلى رؤية أكثر وضوحاً لدعم الشريحة التي تعتبر عماد وعصب الإدارات المدنية أو العسكرية معاً، حيث تمكنت هذه الإدارات من توفير الكثير من فرص العمل ضمن الاحتياجات المطلوبة. وهذا يتعين أن نذكر أن فرص العمل قبل ثورة 19 تموز كانت محصورة في فئة محددة بعينها ولا تخلو أيضاً من محسوبيات سواء فيما يتعلق بمناطق الحكومة السورية أو تلك التي تقع تحت وطأة المرتزقة المدعومة من قبل الاحتلال التركي التي عمدت تحت ارتفاع مستوى المعيشة إلى تحويل العملة السورية إلى العملة التركية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها كالباب وإدلب، وقد تخلوا عن مبدأ الوطن والوطنية، ضاربين به عرض الحائط. في فترة وجيزة من تشكيل الإدارات في شمال وشرق سوريا تمكنت الإدارات المدنية في شمال وشرق سوريا من تأمين 250 ألف فرصة عمل بمختلف القطاعات الحيوية. إلى جانب ذلك، تمكنت من رفع مستوى الدخل المعاشي للعاملين إلى وتيرة تجانس ارتفاع الدولار، حيث منحت زيادة على رواتب كافة العاملين بلغ مقدارها 150% لمجموع إجمالي العاملين والعاملات البالغ عددهم 250 ألفاً. وهذا يعني أن الحكومة السورية أحد طرفي النزاع على مدى طيلة خمسين عاماً لم تتمكن من رفع الأجور إلا بمقدار 25 % للبرهنة على دعم هذه الشريحة الهامة من المجتمع في حين أن عمر الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لم يتجاوز أربع سنوات بعد.