سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

كورسك… تغيّر عنوانَ الحربِ الروسيّة على أوكرانيا

بدرخان نوري_

إذا كان التقدم الروسيّ في منطقة خاركييف شرقي أوكرانيا متغيراً ميدانيّاً كبيراً، فإنّ هجوم القوات الأوكرانيّة وسيطرتها على مساحات من كورسك الروسيّة هو محطة تحولٍ في مسار الحرب، التي وُصفت على مدى 30 شهراً، بأنها حربٌ روسيّة في أوكرانيا، وبخاصةٍ مع مسعى أوكرانيا لاستثمار التقدم الروسيّ والإنجاز الأوكرانيّ في كورسك لرفع قيود الدول الغربية على استخدام أسلحتها لضرب العمق الروسيّ، ومع استمرار الحربِ وتحولاتها فإنّ أوكرانيا هي الميدانُ الأكثر خطورة لموسكو في مواجهة الغرب ما يدفع موسكو لاستخدامِ المزيد من الأسلحةِ المؤثرة.
خاركييف مُتغيّر ميدانيّ 
بدأت روسيا في 24/2/2022 هجوماً عسكريّاً على جارتها أوكرانيا، واكتسحت قواتها مساحات كبيرة من الأراضي شرقي أوكرانيا، واشترطت لإنهاءِ الحربِ أن تتخلى كييف عن الانضمام إلى حلف الناتو وهو ما اعتبرته كييف “تدخّلاً” في شؤونها الداخليّة، إلا أنّ موسكو تمسكت برفض “أطلسة” أوكرانيا باعتبارها الحديقة الخلفيّة لروسيا، الأمر الذي فرض على الدول الغربيّة بشكلٍ أو بآخر أن تُبديَ موقفَ دعمٍ لكييف، والواقع أنّ كييف تلقّت حجماً كبيراً من المساعدات العسكريّة، إلا أنّها كانت مشروطة بقيود، على أن تستخدمها في الدفاع عن أراضيها دون استهداف لمواقع في عمق الأراضي الروسيّة.
في 10/5/2024 بدأ الجيش الروسيّ هجوماً في منطقة خاركيف وهي ثاني المدن الأوكرانية (شمال شرقي البلاد) وتقع على بُعد 30 كم من الحدود. وسيطر على بلدات عدة، الأمر الذي دفع أوكرانيا إلى إرسال تعزيزات، لكن كييف أكدت في 31/5/2024، أنّها تمكنت من “وقف” تقدّم القوات الروسيّة بالمنطقة.
إلا أنّ التقدم الروسيّ في خاركيف، أقنع حلفاء كييف، بأنّه لابد لأوكرانيا من أن تكون قادرة على تدمير أهداف عسكريّة في الجانب الآخر من الحدود، إذا أرادت الدفاع عن نفسها، وشكّل التقدّم الروسي تهديداً خطيراً لخاركيف، والواقع أن الحدود هي أيضاً خط المواجهة. فحظر استعمال الأسلحة الغربيّة في ضرب الأهداف خارج حدود أوكرانيا، سمح للقوات الروسيّة بالتحضير لعملياتها العسكريّة في مأمن من أيّ خطر أوكرانيّ.
كان حصول كييف على موافقة الدول الغربيّة في استعمال أسلحتها في ضرب أهداف داخل روسيا، له أثر في الواقع الميدانيّ. إذ كانت الدول الغربية، تضع قيوداً على استعمال أسلحتها، وتشترط الاقتصار على ضرب الأهداف العسكريّة داخل أوكرانيا، بما فيها شبه جزيرة القرم، والأقاليم المحتلة، ويعود ذلك إلى خشيتها أن يؤدي استعمال أسلحة دول الناتو داخل الحدود الروسيّة، المُعترف بها دولياً، إلى تصعيد النزاع. إلا أنّ كييف تُطالب برفع القيود لاستهداف أهدافٍ في العمق الروسيّ. والإقدام على خطوة مثل ضرب روسيا يرفع حدة التوتر لدرجات إضافيّة، ما دفع معظم الدول الغربيّة للتريث والحذر قبل إعلان مواقفها.
 وبدا المستشار الألماني أكثر مراوغة وقال: “لدى أوكرانيا كل الإمكانية للقيام بذلك، بموجب القانون الدولي.. يجب أن نقول صراحة أنها تعرضت للهجوم ويمكنها الدفاع عن نفسها”.
كورسك تحوّلٌ في مسار الحرب 
في 6/8/2024، بدأتِ القوات الأوكرانيّة عملية واسعة النطاق على كورسك الحدوديّة، أسفرت عن اندلاع اشتباكات عنيفة متواصلة مع الجيش الروسي، وأعلن رئيس الأركان العامة الأوكرانيّة أولكسندر سيرسكي، الثلاثاء 27/8/2024، أنّ قوات بلاده سيطرت على مساحة 1294 كيلومتراً مربعاً و100 وحدة سكنية في منطقة كورسك الروسيّة.
وقال وزير الخارجية الروسيّ سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحفيّ عقده الخميس 29/8/2024 مع وزير الخارجية السنغالي ياسين فال، عقب لقائهما في موسكو: إنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قدّم مؤخراً مقترحاً جديداً للمفاوضات مع أوكرانيا، عقب قيام كييف والغرب برفض المقترحات السابقة، وأردف: “كان يجب ألا يشك أحد في استعدادنا للمفاوضات، ولكن بعد مغامرة كييف في كورسك باتت المفاوضات بلا معنى”.
وأشار لافروف إلى أن الغرب بات يُرسل أسلحة متطورة أكثر إلى أوكرانيا، مضيفاً أنّه يأخذ “هذا الموضوع على محمل الجد”.
تأمل كييف أن يؤدي الهجوم الأوكراني على كورسك إلى الضغط على موسكو لوقف الهجمات على شرقي أوكرانيا، ويُجبِر موسكو على وقف الأعمال الحربيّة والجلوس إلى طاولة المفاوضات وإنهاء الحرب، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي، الثلاثاء 27/8/2024، في مؤتمر صحافي، قائلاً إنّ “النقطة الأساسية هي إجبار روسيا على إنهاء الحرب”، مشيراً إلى الخطط التي يستعد للكشف عنها للمسؤولين الأمريكيين، وأضاف: “نريد حقاً العدالة لأوكرانيا، وإذا تم قبول هذه الخطة، وإذا تم تنفيذها، فإننا نعتقد أنه سيتم تحقيق الهدف الرئيسي”.
رفع القيود عن الأسلحة الغربيّة 
يسعى الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي إلى زيادة الضغط على واشنطن وحلفائها الغربيين لرفع كل القيود على استخدام الأسلحة الغربية واستخدام الأسلحة الصاروخيّة بعيدة المدى ضد أهداف في عمقِ الأراضي الروسيّة، وبخاصةٍ من منطقة كورسك، بعدما أن شنت موسكو الاثنين الماضي أكبر هجماتها الصاروخيّة والطائرات المُسيّرة على أوكرانيا منذ بداية الحرب في 24/2/2022، لرفع القيود عن ضرب أهدافها.
ووفقاً لصحيفة “فاينانشال تايمز”، فقد جعل زيلينسكي من أولوياته الدبلوماسية العليا إقناع واشنطن والعواصم الغربية الأخرى بالسماح لأوكرانيا بضرب القواعد الجوية والمواقع العسكرية الأخرى في عمق الأراضي الروسيّة التي تُستخدم لشن هجمات ضد أوكرانيا.
والحقيقة أنّ كييف تعمل على استغلال الزمن بدل الضائع في الإدارة الأمريكيّة قُبيل الانتخابات الرئاسيّة وتخشى تبعات وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الأقرب إلى عقد صفقة سلام مع موسكو.
وانقسم حلفاء كييف حول هذه القضية: المملكة المتحدة وفرنسا متحمستان للسماح لأوكرانيا بضرب أهداف عسكرية في عمق الأراضي الروسيّة، بينما تعارض الولايات المتحدة وألمانيا ذلك.
في 28/5/2024، حثَّ مسؤول السياسة الخارجيّة في الاتحاد الأوروبيّ جوزيب بوريل الدول الأعضاء في التكتل على إيجاد توازن بين الخوف من التصعيد وحاجة الأوكرانيين للدفاع عن أنفسهم، معتبراً أن كييف يجب أن تكون قادرة على ضرب الأراضي الروسيّة بأسلحة غربية، وفي 30/8/2024، صرّح بوريل، بأن وزراء الدفاع في دول الاتحاد الأوروبي تركوا قرار رفع القيود عن استهداف قوات كييف أراضي روسيا للحكومات الوطنية، دون الإلزام بقرار عام. وأضاف: “لسبب ما، تعتقد بعض دول الاتحاد الأوروبي أن رفع الحظر سيعني حرباً مع موسكو.. لا أتفق مع ذلك، فهذا مجرد مساعدة لأوكرانيا.. لكن بعض الدول تعتقد ذلك، لذا لن يكون هناك أي اتفاق أوروبي شامل”. كما أضاف أن دول الاتحاد تخطط لرفع مستوى تدريب القوات الأوكرانية إلى أكثر من 60 ألف جندي، وفي مؤتمر صحفيّ مشترك بين الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون مع المستشار الألماني أولاف شولتز في 28/5/2024، في برلين، ظهر ماكرون يلوّح بخريطة للمعارك في أوكرانيا قائلاً: “نحن لا نريد التصعيد.. ما تغيّر هو أنّ روسيا قامت بتعديل ممارساتها بشكلٍ طفيف” وباتت تهاجم أوكرانيا من قواعد في روسيا.
في 30/5/2024، أبدى الرئيس الفرنسيّ ماكرون بدّل تغييراً في موقف باريس مستخدماً الصيغة نفسها التي عبّر عنها الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، وقال: “أعتقد أن الوقت حان لإعادة النظر في بعض تلك القيود لتمكين الأوكرانيين من الدفاع حقاً عن أنفسهم”.
فيما قال مسؤول أمريكيّ لم يكشِف هويته إن الرئيس جو بايدن سمح لكييف باستخدام أسلحة أمريكيّة لضرب أهداف داخل روسيا، إلا أنّ هذه الموافقة مشروطة. وأردف بأن الولايات المتحدة لا تزال تُعارض تنفيذ ضربات أوكرانيّة في عمق الأراضي الروسيّة، موضحاً بأنّ “موقفنا من حظر استخدام صواريخ أتاكمس ومنع الضربات في عمق روسيا لم يتغير”.
وقررت الدانمارك، تبنّي موقف ماكرون وستولتنبرغ مانحةً الضوء الأخضر لأوكرانيا لاستخدام مقاتلات إف16 لضرب الأراضي الروسيّة.
تهديدٌ روسيّ مُقابل
قال رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما أندريه كارتابولوف في وقتٍ سابق، فإن روسيا سترد بقسوة لا تعادلها قسوة على رفع القيود المفروضة على استخدام الأسلحة الأوروبية من قِبل القوات الأوكرانية لشن هجمات على أراضي روسيا، و”سيتلقون الرد على الفور”.
وسبق أنّ حذّرت روسيا باستمرار الدول الغربيّة من التمادي في إمداد كييف بالأسلحة لاستخدامها ضد أهداف روسيّة. وأكّدت موسكو أن الأسلحة والمعدات الغربية لن تُغيّر في الواقع شيئاً على أرض المعركة، وستؤدي فقط لإطالةِ أمد الصراع والمزيد من تدمير أوكرانيا.
وحذّر الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في عدة مناسبات دول الناتو من عواقب تزويد كييف بالأسلحة واستهداف منشآت في الأراضي الروسيّة بأسلحة غربيّة.
وقال بوتين في نهاية أيار الماضي إنَّ ممثلي دول الناتو يجب أن يكونوا على دراية “بما هم يلعبون به” عندما يتحدثون عن خطط تسمح لكييف بضرب “أهداف مشروعة” في عمق الأراضي الروسيّة بأنظمة صاروخيّة تم تسليمها إليها.
وأشار وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى أن نظام كييف يستخدم الأسلحة الأمريكيّة منذ فترة طويلة لمهاجمة أهداف على الأراضي الروسيّة.
لكن روسيا لا تضرب خاركيف انطلاقاً من أراضيها بل من الأراضي التي سيطرت عليها في أوكرانيا، وبحال استهدافها لمواقع أوكرانيّة بصاروخ إسكندر، فإنّ هذه المنظومة الصاروخيّة متحركة، ولا يمكن تحديد موقعٍ ثابتٍ لها، ويمكن تغيير مواقع الإطلاق في أيّ وقتٍ إضافةً إلى استخدام موسكو الصواريخ البحرية التي تُطلق من الغواصات في البحر الأسود.
آخر جولات الحرب  
في 30/8/2024 أفادت هيئة الأركان الأوكرانية بوقوع 215 اشتباكاً بين القوات الأوكرانيّة والروسيّة على جبهات القتال شرقي أوكرانيا. وأكدت الهيئة استمرار العمليات الهجوميّة الروسية في مقاطعة خاركيف، حيث وقعت 8 اشتباكات مسلحة على طول الحدود الشمالية الشرقية مع روسيا.
وتمكنت القوات الأوكرانية من صد 25 محاولة تقدّم روسيّة باتجاه مدينة كوبيانسك شرقي خاركيف. وفي مقاطعة دونيتسك، تصدت القوات الأوكرانية إلى 12 محاولة هجوم في بلدات باتجاه منطقة كراماتورسك، في حين تكثفت الهجمات الروسيّة على محور مدينة باكروفسك، في محاولة لإجبار الجيش الأوكراني على إخلاء مواقع له بالمنطقة.
وأعلنت القوات الأوكرانية أنها نفذت 19 غارة جوية على مواقع روسيّة، استهدفت خلالها مراكز تجمع للأفراد ونقاط مدفعية ورادارات.
كما أعلنت السلطات الأوكرانيّة في منطقة سومي عن إصابة 9 أشخاص على الأقل جراء هجوم روسي ليليّ استهدف منشأة صناعيّة في المنطقة، ما أسفر عن اندلاع حريق دفع السلطات إلى دعوة السكان للبقاء داخل منازلهم وإغلاق النوافذ، وأشار مكتب المدعي العام الأوكرانيّ إلى أن المنشأة المستهدفة كانت تعمل في إنتاج عبوات طعام للأطفال ومنتجات منزليّة، ما يؤكد استهداف المنشآت المدنيّة الحيوية في أوكرانيا. وتعرضت منشأة صناعيّة أخرى في منطقة بولتافا لقصف بطائرة مُسيّرة، دون وقوع إصابات.
وأضافت القوات الجوية الأوكرانية أنّها أسقطت 12 من أصل 18 طائرة مُسيّرة أطلقتها روسيا خلال الهجوم الليليّ على 5 مناطق في أوكرانيا، وأوضحت أنّ موسكو استخدمت أيضاً صاروخاً من طراز “إسكندر-إم” خلال الهجوم.
قالت بعثة أوكرانية إلى الوكالة الدولية للطاقة الذريّة إنّ الهجوم الذي شنته روسيا بطائرات مُسيّرة وصواريخ الاثنين أجبر أوكرانيا على فصل عدد من وحدات الطاقة النوويّة عن الشبكة، وهو ما يشكّل خطراً على قطاع الطاقة النوويّة. وأضافت البعثة في مُذكرة أن “روسيا الاتحادية تواصل استهداف البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا عمداً في مسعى لتعطيل تشغيل محطات الطاقة النووية في البلاد، والتي تمدُّ أوكرانيا بمعظم الكهرباء”.
وشنت القوات الروسيّة الاثنين “أضخم” هجوم جويّ على أوكرانيا مستخدمةً أكثر من 200 صاروخ وطائرة مُسيّرة، ما أسفر عن مقتل 7 أشخاص، وشمل قصف منشآت الطاقة في أنحاء البلاد.
أعلنت روسيا الخميس السيطرة على قريتين إضافيتَين في منطقتي دونيتسك ولوغانسك شرقي أوكرانيا، وتواصل قواتها تقدمها في عمق البلاد، فيما قالت كييف إنها أسقطت صاروخين و60 طائرة مسيّرة فوق 9 مناطق في هجوم روسي الليلة الماضية، وذلك بعد أن كثفت موسكو هجومها على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا في وقتٍ سابق من هذا الأسبوع.
وأعلن الجيش الأوكراني، الخميس، تحطم الطائرة ومقتل قائدها في أثناء اقترابها من هدف خلال هجوم جوي روسي كبير. وقال مسؤول دفاعي أمريكيّ لـ«رويترز» إنّ تحطّم الطائرة لا يبدو ناجماً عن إطلاق نار من الجانب الروسيّ، وإنه يجري النظر في أسباب محتملة تتعلق بارتكاب الطيار خطأ أو حدوث عطل، وشكّل وصول أولى طائرات “إف – 16” نقطة تحوّل مهمة بالنسبة لأوكرانيا خلال الحرب.
وتنفي كل من روسيا وأوكرانيا استهداف المدنيين في هذه الحرب التي بدأت مع الهجوم الروسي الواسع النطاق على الأراضي الأوكرانية في شباط 2022، لكن التقارير المتزايدة عن الأضرار المدنيّة تسلط الضوء على الأثر الكارثيّ لهذه العمليات العسكريّة على السكان المدنيين.