روناهي/ قامشلو: الصفحات التاريخية للكرد مليئة بالملاحم والأساطير والحكايات المطولة عن حياة شعبٍ عريقٍ أصيل عاش منذ القدم مواجهاً الحروب والأعداء من كل حدبٍ وصوب، فقد كانت الكتابة وتناقل وغناء هذه الملاحم وسيلة لتوثيق هذه الأحداث في تاريخ العالم، وفي هذا السياق صدر حديثاً كتاب للكاتب الكردي من روجهلات كردستان منصور ياقوتي، من قبل وزارة الثقافة في إيران.
وقال ياقوتي في تصريح نقلته وسائل إعلام ايرانية، أنه عمل منذ ثلاث سنوات على كتاب “دين” مدينة يارسان. ويبحث الكتاب عن مذكرات سكان يارسان في المجالات المختلفة لدين المدينة. ومنصور ياقوتي كاتب كردي شهير له العديد من الكتب يبلغ الثانية والسبعين من العمر ومن اهالي محافظة كرمانشان في روجهلات كردستان.
الفلكلور الكردي يتسم بالأصالة والخصوبة والثراء، وبتعدد أشكاله وأنماطه، وتنوع موضوعاته، وأساليبه التعبيرية، واحتوائه على عدد هائل من الأساطير والحكايات والملاحم والأغاني والألوان الاخرى من الأدب الشعبي، التي ترتفع بمضامينها الانسانية ومستواها الجمالي الرفيع الى مصاف الآثار الخالدة في الفلكلور العالمي, بيد أن القسم الأعظم من هذا التراث لم يتم لحد الآن تدوينه وجمعه, ناهيك عن دراسته واستلهامه في الأعمال الأدبية والفنية. وما لدينا اليوم من نصوص فولكلورية كردية, يعود الفضل في تدوين القسم الأكبر منه وتحقيقه ونشره إلى تلك النخبة المثقفة الواعية من الكرد ما وراء القفقاس.
لقد شرعت تلك النخبة الرائدة بجمع النصوص الفولكلورية لأفضل نماذج الأدب الشعبي الكردي منذ العشرينيات من هذا القرن وحققت انجازات باهرة في هذا المجال, وكانت ثمرة جهودها الدؤوبة على مدى عشرات السنين عدة كتب ومجاميع فولكلورية كردية صدرت في أوقات مختلفة في يريفان وبطرسبورغ وموسكو باللغات الكردية والارمنية والروسية, ولعل أهم هذه الكتب على الاطلاق كتاب “الحكايات الملحمية الكردية المغناة ” الصادر عن دار نشر الآداب الشرقية في موسكو في عام (1962) برعاية معهد الادب العالمي في موسكو ومعهد الأدب في يريفان.
وقد رحبت الأوساط الثقافية بهذا الكتاب وأعتبر العلامة “قناتي كوردو” صدوره حدثاً مشهوداً, ويضم الكتاب النصوص الفولكلورية لأشهر وأهم الحكايات الملحمية الكردية المغناة مع ترجمتها إلى اللغة الروسية ومقدمة ضافية وقيمة للعلامة الراحل “حاجي جندي” وهوامش وتعليقات مفيدة, هذه الملاحم هي (مم وايشى, زنبيل فروش, ليلى ومجنون, مم وزين ,دمدم، سيدا وئاجى ,خجى وسيابند ,كاروكللك) وقد تم تدوين النصوص الفولكلورية الكردية لهذه الملاحم في فترات مختلفة بين الاعوام (1931- 1955) من قبل ” حاجى جندى, قناتى كوردو, عرب شمو، تسوكرمان “, وذلك عن لسان عدد من الرواة الكرد القاطنين في المناطق الكردية من ارمينيا وجورجيا. وكان هؤلاء الرواة من المسنين الذين حباهم الله بالموهبة والذاكرة القوية والصوت الشجي في معظم الأحيان، حيث أن هذه الملاحم – وهي قصص شعرية قد يتخلل بعضها مقاطع نثرية متفرقة – كانت تنشد في المجالس والمناسبات والأعياد بمصاحبة الآلات الموسيقية, والحان هذه الملاحم رائعة وقد قام الموسيقار الارمني البارز “كوميتاس” بتدوينها ونشرها.
هذه الملاحم وصلت ألينا من أعماق التاريخ عبر أجيال عديدة وخضعت لبعض التحوير أحياناً وللحذف والإضافة في أحيان اخرى, وتم تكييفها لتلائم الوجدان الشعبي وتخلق نوعاً من التوازن النفسي بين الواقع المرير المكدود في ظل عهود الاستبداد والظلم والاضطهاد القومي وبين ما تصبو إليه الارواح والنفوس من حياة حرة كريمة, وهي تعكس – أي الملاحم- بكل عمق وصدق حياة الشعب الكردي وخصائصه القومية ونضاله التحرري.
أن أبطال هذه الملاحم هم من الفلاحين والرعاة والصيادين الذين اكتسبوا شعبية واسعة بين الجماهير العريضة بفضل تعبيرهم عن الوجدان الشعبي وتجسيدهم للقيم والمثل العليا النبيلة للشعب الكردي وتطلعاته وآماله, وقد أسبغ عليهم الشعب الصفات الايجابية مثل البطولة والشجاعة والاخلاص والتضحية والفداء والكبرياء, وعلى النقيض من ذلك نجد الاعداء والاشرار محل ازدراء وسخرية لاذعة.
الملاحم الكردية تجسد القيم النبيلة والمثل السامية للشعب الكردي , قيم الرجولة والشجاعة والاقدام والدفاع عن الأرض والكرامة والحرية, كما أنها تعكس تقاليده الايجابية العريقة مثل تكريم الضيف والدفاع عن المظلوم واحترام المرأة.
وما أحوجنا اليوم إلى استيعاب هذه القيم والمثل العظيمة واستلهام العبر والدروس منها وترجمتها إلى الواقع العملي لتكون حياتنا الجديدة المشرقة وثقافتنا المعاصرة امتداداً طبيعياً لتاريخنا العريق, وهنا تكمن قيمة وأهمية العمل الجليل الذي أنجزته النخبة الواعية من كرد ما وراء القفقاس قبل خمسين عاماً وبإمكانيات متواضعة ولكن بهمة عالية وإخلاص لا حدود له.