سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

قُدسيّة الدولة

صلاح الدين مسلم_

أثبت العلماء والباحثون بأن الشرق الأوسط هو المكان الأول لظهور المجتمع الإنساني والطبقة والدولة عبر التاريخ، وامتداد تاريخ ظهور ثقافة نظام الدولة والسلطة من صلب هذه الجغرافيا، التي تجذّرت حتى النخاع في المجتمع وكوّنت أسس ذهنيته، وتتوضّح الحقيقة على مرأى الأعين من خلال تسمية الدولة بالأب وتقديسها، وسلاطين الدين أكدوا بوجوب إطاعة وتقديس الدولة، ورؤيتها ممثلة للآلهة على وجه الأرض، والذين ناهضوا الدولة وممارساتها الخاطئة حسب أفكارهم ومعتقداتهم، لم يرفضوا الدولة بأكملها، بسبب عدم إدراك حقيقة “وجود الدولة يعني القمع والاضطهاد وإنهاء الديمقراطية والحرية” فحتى الأديان لم تحلل الدولة واعتبرتها مُقدسة، وأكسبتها المشروعية والصلاحيات المطلقة –عن دراية أو دونها- لتعظيم نفوذ السلطة والدولة.
لن يكون القضاء على النظام الدولتي وتحقيق الديمقراطية والحد من السلطة في موطن تجذرت فيه الدولة بكل عمق وجرى تقديسها دينيّاً بهذه السهولة، لذا فتوعية المجتمع في الشرق الأوسط  على أسس معرفة حقيقة الدولة والسلطة كأداة قمع واضطهاد مسألة بالغة الأهمية، وينبغي لِعلماء الاجتماع والثوريين تنوير الشعوب بأن الدولة لم تكن وليدة الحاجة وليست ضرورة تاريخية، فالمجتمعات الأولى عاشت ونظمت حياتها دون الدولة، وولادة الدولة هي نتاج طبقة محتكرة نظمت نفسها على شكل دولة، لتتمكن من ممارسة السلطة والحكم والهيمنة على المجتمع، فنظّمت الطبقة المُستغِلّة نفسها على شكل مجموعات مستعمرة بظهور فائض الإنتاج، وأنشأت الدولة كدرع حماية قوتها وقدسيتها، وطور المفكّر “عبد الله أوجلان” تحليلات قيّمة بصدد مفهوم الدولة وولادتها الأولى في عهد الحضارة السومرية.
حلّل المفكّر “عبد الله أوجلان” الدولة والسلطة بشكلٍ عميق ومذهل، ووضح عن تمثيل سلطة الدولة للنظام السماوي على وجه الأرض مثلما ذكرته الميثولوجيات، وأشار إلى تجذّر اضطهاد المرأة رويداً رويداً ببروز الدولة الممثلة للنظام الذكوري السلطوي، أي أنّ الدولة والرجل جزءان لا ينفصلان عن بعضهما، ووجهان لعملة واحدة، وتعتبر تحليلات المفكّر “عبد الله أوجلان” عظيمة في تحقيق التحول الديمقراطي، بإشارة منه إلى وجوب الحد من صلاحيات الدولة وممارساتها القمعية، والكاتمة لأنفاس الشعوب والمجتمعات، فالدولة لعنة تاريخية، ولا بد من فكّ أسرارها.
كان السومريون والمصريون من أوائل المقدِّسين للدولة في الشرق الأوسط، وبقدر قدسية الملوك كانت الدولة مقدسة لتصبح إلهاً على وجه البسيطة، والآلهة الملوك تعريف لقداسة الدولة، ولكن من هم الآلهة الملوك؟ وماهي مسؤولياتهم وصلاحياتهم؟ هؤلاء هم من أوجدوا الدولة وطوروا من أشكالها، لتكون أداة قمع واستعمار وظلم على الشعوب، فهي من اختراعات النماردة والفراعنة، من هذا المنطلق يجب رؤية الدولة كإيجاد مصنوع، وبأن هذه الأداة التي تمثل القمع والاستعمار هي من إيجاد النماردة (ملوك سومر وميزوبوتاميا) والفراعنة (الملوك الآلهة المصريين)، واسما نمرود وفرعون يُعبّران عن قهر الشعوب بأداة الدولة.
بقدر عمق الدولة وتجذرها في الشرق الأوسط، برزت تمردات وصراعات عميقة وجذرية ضدّ أولئك الملوك، وكانت معبّرة عن مطالب تحجيم الدولة وتحقيق الديمقراطية، عبر مناهضتهم ضمن سياق النضال الديمقراطي، ولا بد من توضيح وتقييم الأبعاد التاريخية لتلك المناهضات، والاستفادة من نتائجها في خدمة الثقافة والوعي والتنظيم الديمقراطي.