كشفت المواجهة بين البحرية التركية والفرقاطة الفرنسية «كوربيت» في العاشر من (حزيران)، عن نوايا واضحة لتركيا أكثر مما أرادت، فبينما كانت الفرقاطة الفرنسية تسعى لتحديد هوية سفينة شحن يشتبه في أنها تنقل أسلحة إلى ليبيا، تدخلت الفرقاطات التركية وأضاءت ثلاث مرات برادار التحكم في إطلاق النار، فكانت لحظة لم تكتفِ تركيا فيها بمخالفة البروتوكولات الرسمية وغير الرسمية بين الحلفاء (تركيا وفرنسا عضوان في حلف شمال الأطلسي) بل جعلت من الصعب إنكار جدية ما تفعله في ليبيا، أو إخفاء نواياها هناك.
لقد أوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه لا نية لديه في أن تكون بلاده جسراً بين أوروبا والعالم العربي، واختار بدلاً من ذلك إرجاع تركيا إلى ماضيها الإمبراطوري ووضعها كمنافس وخصم لكليهم، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول زعيم أوروبي يشير صراحة إلى هذا الواقع وهذا الخطر، من خلال حض الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على الوقوف في وجه تركيا في كل من ليبيا وسوريا، واضعاً بذلك فرنسا كدولة قائدة استراتيجياً لأوروبا فيما يتعلق بتركيا والأمن في البحر الأبيض المتوسط، لينضم بذلك إلى صوت الأغلبية العربية.
إن دولة الإمارات واثقة من أن الغالبية العظمى من الليبيين يريدون إنهاء هذه الحرب، ولا نعتقد أن الشعب الليبي يدعم محاولات «القاعدة» أو «داعش» للسيطرة على أجزاء من ليبيا، كما لا نعتقد أن الليبيين يدعمون تهريب الأفارقة والاتجار بهم، أو أنهم يوافقون على تصرفات الميليشيات المسلحة غير المسؤولة. لماذا؟ لأن الليبيين لم يقبلوا يوماً بأي من هذه الممارسات.
لقد بات لدى تركيا الكثير لتجيب عليه، بدءاً من محاولاتها العديدة وطويلة الأمد مع قطر وجماعة «الإخوان المسلمين» لزرع الفوضى في العالم العربي عبر استخدام الإسلام كغطاء لتبرير عدوانها، ففي الأشهر الأخيرة وحدها، استخدم أردوغان اللاجئين في سوريا وليبيا للضغط على أوروبا، كما تعاون مع إيران لقصف الكرد في شمال العراق، وسعى بنشاط إلى استغلال عدم الاستقرار في القرن الإفريقي لمصلحته.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن ليبيا هي محور ومنصة التوسع «العثماني الجديد»، حيث وضعت تركيا نفسها في هذا الموقع، ففي أواخر العام الماضي، استغل أردوغان الانقسامات داخل حكومة الوفاق الوطني الليبية لسن اتفاقيات ثنائية استخدمها بعد ذلك لتبرير عمليات مصادرة واسعة للموارد في البحر الأبيض المتوسط، وتوفير أسلحة متطورة ونقل آلاف المرتزقة السوريين إلى غرب ليبيا، وكما جرى في ظروف أخرى مماثلة، تضامنت دولة الإمارات مع فرنسا وحلفاء آخرين للتصدي لهذه التهديدات.
وعند الحديث عن ليبيا لا بد للمجتمع الدولي أن يبعث أولاً برسالة واضحة لا لبس فيها لتركيا مفادها أن سلوكها غير مقبول، ثانياً، يجب أن يمارس المجتمع الدولي الضغوطات الممكنة كافة لوقف إطلاق النار، ما من شأنه أن يسمح لليبيا بالعودة إلى عملية سياسية خالية من الأعمال العدائية الخارجية، وثمة آلية لتحقيق ذلك من خلال «إعلان القاهرة» الذي أطلقه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في السادس من حزيران الماضي، والذي يستند إلى توصيات مؤتمر برلين الذي تدعمه الأمم المتحدة، ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وانسحاب المقاتلين الأجانب من ليبيا، وإجراء مفاوضات متعددة تمهد الطريق لإجراء الانتخابات.
وفي هذا السياق، فمن الحماقة الاعتقاد بوجود حل عسكري للصراع الليبي، إذ أنه بعد اتهام الخصوم بخلق أزمة إنسانية ومحاولة إخضاع كل ليبيا لسيطرتهم، تحركت الميليشيات الليبية المدعومة من تركيا شرقاً، وارتكبت العديد من الأعمال الانتقامية، ودعت جميع مناطق ليبيا إلى الخضوع لها. إن المواجهة الحالية حول مدينة سرت الساحلية تعرض أكثر من 60 ألف شخص للخطر، ليس هذا فحسب بل أن الخطر يهدد حياة الناس في كل أنحاء ليبيا، إذ انهار الاقتصاد الليبي، وثمة أجزاء كبيرة من الغرب والجنوب هي في الأساس مناطق خارجة عن القانون، كما تضاعفت الإصابات بفيروس «كوفيد-19» عما كان عليه الوضع الصحي قبل بضعة أسابيع، وليس لدى ليبيا البنية التحتية لتحديد مدى انتشار الوباء، ناهيك عن مكافحته.
ومن دون حل سياسي مبني على أسس متينة يدعمه الشعب الليبي، ومن دون انسحاب جميع القوات الأجنبية، سيستمر هذا الصراع حتى يتم تدمير النسيج الاجتماعي بالكامل، لقد تعلم الليبيون أنه كلما مالت الكفة لصالح طرف دون آخر فإن ذلك يعني أنهم من سيدفعون الثمن. الغالبية العظمى من الليبيين يريدون إنهاء هذه الحرب، ولا نعتقد أن الشعب الليبي يدعم محاولات «القاعدة» أو «داعش» للسيطرة على أجزاء من ليبيا، كما لا نعتقد أن الليبيين يدعمون تهريب الأفارقة والاتجار بهم، أو أنهم يوافقون على تصرفات الميليشيات المسلحة غير المسؤولة. لماذا؟ لأن الليبيين لم يقبلوا يوماً بأي من هذه الممارسات.
لقد أجريت انتخابات وطنية، وحتى الآن لم يتم أخذ نتائجها. وقد حرفت الجهات الفاعلة مراراً وتكراراً رسالة ونوايا الاتفاق السياسي الليبي الذي تم التوصل إليه برعاية الأمم المتحدة والذي على أساسه تؤكد الحكومة الحالية شرعيتها، إن اهتمام دولة الإمارات في ليبيا هو ضمان عدم استخدام القوات الأجنبية هذا البلد الشقيق كوسيلة لزعزعة استقرار العالم العربي، ومع ذلك، فإن المهم ليس فقط عدم وجود الصراع، فمع القيادة المسؤولة والإدارة الحكيمة للموارد، فإن ليبيا تملك القدرة على أن تصبح قاعدة إقليمية للنمو الاقتصادي والازدهار.
وما نريده هو استقرار ليبيا وليس زعزعة الاستقرار في منطقة تقع على مفترق طرق بين إفريقيا وأوروبا والعالم العربي، ومن الواضح أن هذا لا يمكن أن يحدث من دون شجاعة الليبيين وتسامحهم، ومع ذلك، فإن الشعب الليبي يحتاج بالتأكيد إلى فرصة لتوحيد بلاده ويحقق آماله وطموحاته من دون أن يكون هناك من يسعى إلى السيطرة الإقليمية المشبعة بالأيديولوجيا.