“أخجل أن يكون لي طموح خاص، وأنا بعيدة عن وطني”؛ هكذا تحدثت نضال سواس الفنانة السورية التشكيلية، والشاعرة والمحاضرة في أكاديميات الفن والهندسة المعمارية، والكاتبة المسرحية، لتختصر رسالتها، وعشقها للمكان الذي رأت النور للمرة الأولى في رحابه.
تلك الرؤية التي سحرها اللون، وتلك القدرة على التوغل في الأدب، استطاعت أن تجعل الأدب فلسفة، وأن تبحث في فلسفة الأدب والفن، وأمام هذا الإبداع يبقى المتلقي إزاء ثراء وعمق تعددت أشكاله التعبيرية وتعمقت رؤاه الفكرية.
ذاك التنوع الكتابي والاهتمام بالأجناس الإبداعية هو تكوين متأصل وغاية تسعى إليها، فمن عوالم الموسيقا والأدب والمسرح تنطلق ذائقتها الجمالية الباحثة بشغف في فضاءات مسرحها الروحي، فتحلق مع اللون حيناً، تشاغبه وتشاكسه، لتعود في الفجر معانقة صفحاتها البيضاء، وتبوح بعبثية وتطرح تساؤلات عميقة، بروح مزاجية تعلن حضورها في اللون حيث مسرحها الروحي، وتبقى روحا طفولية لا تتخلى عن عبثها في طرح التساؤلات المشروعة، هكذا انطلقت من بيئتها المترعة بالفن والفكر، وهكذا أرادت أن تستمر، وأن تمنح الكثير من ذاك الإرث الجمالي العائلي إلى أبنائها أيضا.
تاريخها، وسيرتها الفنية والأدبية رسمت ذاكرتها بطعم المرارة حيناً وبطعم الملوحة أحياناً، وربما لم تستطع التقاط أنفاسها لتتمتع بحلاوة معاركها مع الحياة إلا نادراً.
“لذاكرة الأيام طعم الملوحة… قطرات خرساء تحفر أخاديد المرارة، تتراقص ضمن خط بياني تحصره الغربة من جهة والحنين من جهة أخرى”
فقد كانت محاصرة ضمن حلقات الأزمة… حلقات تأبى الانغلاق الكلي كما لم تمنحها حرية المرور… تشدها رغما عنها بقوة جذب رهيبة تكاد تقارب الانسحاق، دوامة سوداء ومساحة أمل مثل حمامة بيضاء أفردت جناحيها في فضاء مغلق، حلقت نحو عوالم كانت تحلم بها أكثر بياضا ونقاءً.
ففي كتاباتها الكثير من العتب والشجن والتعب، حمامة تعود مهيضة الجناح تستلقي على رماد الحياة تعاتب وتصرخ، تدعو، وتعود منهكة لتستلقي على الرماد، تباشر كتابة مشروع جديد وتنثر حروفها أو تبدأ بلطخ لوحة جديدة لتعلن مسرح اللون مجدداً… هكذا تعلن تحليقها من جديد بصرخات عميقة مكتومة… فهي تعلن عن ذاتها عاشقة للطبيعة، برتبة صوفية تغوص في فضاءات المسرح باحثة عن الذات، ربما هي لا تدرك أبعاد المسافة، لكنها تعلم أبعاد قضيتها بدقة متناهية.
العلامة السوداء والدائرة المستديرة ذاك العشق الصوفي والهوس بدائرة الأمكنة، إن كانت ساحة في مدينة حلب أو ساحة في روما أو ميدان في أستوكهولم أو رقعة مسرحية مضاءة، تهدهد خطواتها وتزنر خصر الكون بعناق دافئ، تبوح له شعرا ولونا وحركة، تقترب من وعيها، تلامسه، تجبر المتلقي أن يبدأ بالاكتشاف أن يلمس سطح لوحاتها أو يقترب أكثر من عمق حواراتها المسرحية، تحاول ترتيب الأسرار، أن تقودها إلينا وتقض مضاجعنا، تحيل الشك إلى جمر، توشمنا بالحقيقة، عاشقة للعقل، تشترك مع كانط في تجلياته مع العقل المحض، وليس ثمة تناقض بين علو تحليقها وخيالاتها وأحلامها إزاء التفكير العقلاني الدقيق المحكوم بالمنطق، فالرحلة تبدأ من الشك إلى اليقيني عبر عملية بحث وتحليل دقيقة ومجهدة، هناك حيث يكمن التناغم الروحي المادي في روح نضال سواس.