سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

قراءة في فيلم سينمائي مصري

رجائي فايد –

سأظل أتحدث عما كان في سالف الأيام، من الروائع الإبداعية، فكل ذلك قد تبخر، ونحن في عصر الأمركة، وثقافة الـ (تيك أواى)، ولم يعد هناك إبداع يستحق أن نتوقف عنده، واتساقاً مع كلماتي السابقة (تعالوا إلى كلمة سواء)، قفز إلى ذهني فيلماً مصرياً مضى على إنتاجه حوالى ربع قرن، حيث يتناول أحداثاً (ببناء فني دراماتيكي محترم) جرت في منطقتنا قبل إنتاجه بسنوات قليلة، لكنها أثّرت تأثيراً بالغاً بكل ما مر ومازال يمر من أهوال ونكبات. الفيلم يحمل صرخة ملتاعة لأم لم يسمعها أحد، (لم يستمع أحد إلى صرخات البسطاء رغم أنهم حطب كل صراع)، خصوصاً من بيدهم القرار، وكانوا لو سمعوها مثل صرخات وتوسلات البسطاء أمثالها لما حدث ما حدث، إذ أن توسلاتهم وصراخهم كان من الممكن مع رشادة العقل أن  يمتثل من بيدهم الأمر للحل السحري (تعالوا إلى كلمة سواء) وقاموا بتسوية ما بينهم من خلافات، وبأن يتنازل قليلاً كل طرف للطرف الآخر عن بعض مطالبه من أجل هدف أسمى وهو تحقيق الخير للجميع، لكن ما حدث هو العكس من ذلك، بركوب الرأس و(والله زمان يا سلاحي اشتقت لك في كفاحي)، وهي صيحة إذا قيلت في السياق الخطأ لا يأتي من ورائها إلا الخراب وبحور الدماء، وفي حالتنا تلك بدأت المأساة بشعار (العراقي يتقدم)، و(القدس عن طريق طهران)، ثم تحول هذا الشعار بعد فشله إلى تغيير وجهته (القدس عن طريق الكويت)، وكأن شرط تحرير القدس هو تحويل دولة الكويت إلى محافظة عراقية اسمها (كاظمة)، وكم من الجرائم ترتكب باسمك يا زهرة المدائن، ونصل إلى قراءة أحداث الفيلم؛ هدى أرملة مصرية، توفي زوجها منذ فترة طويلة تاركاً لها ولدين ، تنغمس الأم في تربية الولدين وحل مشاكلهما، حرمت نفسها من متاع الدنيا، إذ أن متعتها الوحيدة أن ترى الولدين رجالاً يحملون أرقى الشهادات الجامعية، يحصل الابن الأكبر على بكالوريوس الهندسة ويقرر السفر إلى العراق لمساعدة أسرته، وعلى أمل في أن يكوّن مستقبله. وفي العراق يمتثل للإغراءات المتعلقة بالحصول على فرصة عمل، فيضطر للتوقيع على الانضمام لحزب البعث العربي الاشتراكي، وتصور أن هذا الانضمام هو آخر المطاف، لكنهم ضموه إلى صفوف الجيش الشعبي (ميليشيات الحزب)، وقام صدام بغزو الكويت، واشترك مجبرًا في هذا الغزو، وصل هذا الخبر إلى الأم لتنهار، كيف يمكن له وهو المسافر إلى العراق من أجل تحسين أحواله المادية والحصول على فرصة عمل، إذا به يغير وجهته فيذهب إلى بغداد ثم إلى الكويت غازياً، وهي التي تذوقت مرارة الحياة ومكنته من التفوق في دراسته حتى أصبح رجلاً ،أنا لم أتحمل ما تحملت كي يصبح جندياً مرتزقاً في جيش معتدى، هكذا قالت الأم، لكن المصائب لا تأتي فرادى كما يقولون، إذ أن الابن الثاني طلبته السلطات المصرية للتجنيد الإجباري وكان لابد أن ينفذ ذلك، بل ويتم إلحاقه بالقوات المصرية المسافرة للكويت لتحريرها، ومنذ تلك اللحظة تعيش الأم في أزمة حقيقية وهى كيف يواجه الشقيقان كل منهما الآخر في خندقين متضادين، أحد الشقيقان مع جيش صدام محتلاً للكويت، والشقيق الآخر في حفر الباطن بالسعودية ينتظر أوامر الجنرال (شوارسكوف) للانطلاق لتحرير الكويت والأم تصرخ ولا أحد يستمع لصراخها، فلذة كبدها يقتتلان وواحد سيقتل الآخر، وبددت صرخاتها جحيم الحرب، لتنكفئ على نفسها ملتاعة، ألم يكن من المخرج السحري للأزمة وكل أزمة (تعالوا إلى كلمة سواء).