يعتبر الشاعر أحمد إلياس حمدو من الشعراء المخضرمين الكبار الذين تركوا بصمة واضحة في الساحة الشعرية السورية عموماً، ومنبج على الأخص. وتمكن خلال وقت قصير أن يخط اسمه بحروف مضيئة على غلاف ديوانه الشعري المطبوع تحت عنوان “بريق الأماني” الذي يحتوي على نصوص شعرية منوعة يطغى عليها الهم الذاتي والوجداني والعاطفي والقومي
وكان الشاعر أحمد إلياس حمدو قد أصدر ديوانه الشعري المطبوع بعنوان “بريق الأماني” عام 2010م، بعدد صفحات 112 من القطع الكبير، وبعدد 21 قصيدة متفاوتة الطول، تتنوع بين الشعر الكلاسيكي وبين شعر التفعيلة، وتتوزع المضامين الشعرية من الطبيعة مروراً بالمرأة وانتهاء بالوطن. وتنقلك باكورة أعماله إلى مراتع الصبابة والطفولة، فتصاب بقشعريرة هادئة تصحبك إلى دروب للعشق لا نهاية لها، وتسبح في فضاءاته الرحيبة حيث قضى فيها بحبوحة صغره، يطوف في أزقتها الفيحاء ويدرج على أرصفتها لتعيش معه ومضات تخيلية هادئة تجوب في مخيلته ذِكَر التاريخ وإشراقة الحاضر، بينما يرتقي فنه الأدبي إلى نتاجات الرومانيين الأوائل إذ يتعبد في محرابها الجمال والبهاء.
لغة شعرية تعبر عن مكنونات الشاعر
قراءاتك لديوان “بريق الأماني” للشاعر أحمد إلياس الحمدو ستطالعك في أولى قصائده وحتى آخرها لغة شعرية مرهفة الحس من شاعر مطبوع البنان، فكأنما يحاذر أن يدنو من الخطاب المباشر السردي إلى لغة تقوم على التلميح بدل التصريح، وتقوم على التخييل بدل التقرير، كما تقوم على البيان والبديع المرسل بدل الصلابة والحدة العلمية. وبتعبير آخر، إن لغته الشعرية تفصيل على المقاس والحجم واللون الخاص به دون أن يكون شبيهاً لأحد إلا لنفسه وعالمه الشعري. وأبرز سماتها السهولة والليونة أو التكلف والجزالة، أو الخطاب والغموض، بعيداً عن استلهام المعاجم (الحقول الدلالية) المختلفة. تعد اللغة الشعرية واقعةً كغيرها من الوقائع، وقابلة للملاحظة علمياً والتحديد النوعي في انتقائه للألفاظ والتراكيب، ويستطيع أن يُحَمِّلَها مشاعره بكل يسر وسهولة ما يـؤدي إلى حدوث الدهشة الشعرية، كما في قصائده “ضحايا المحطات”، و”خانها الحدق”، و”مفارقة”، و”عطريني بالتراب”، وغيرها. ونقتبس من قصيدة “مفارقة” قوله:
مدت يديها إلى الدأماء تسـأله هل يرفد البحر عيــناً ماؤها نضبا
حسناء ألوى الهوى أعماقها شغفاً والبين أضفى إلى أعصابها النصبا
تبكي بكاء فلولا الدمع يخذلها أجرت به الخـــد فالأضلاع فالركبا
بان الحبيب فمن يشفي لها كبداً حاط اللهيب بــه حتــى غدا حطبا
توحد الشاعرية مع الطبيعة
الشاعر حمدو يبحر في خضم التيار الرومانسي، الأمر الذي حدا به أن يتعامل مع قصائده تعاملاً خاصّاً ما جعله يبحث عن التجديد والتحديث، فجاءت لغته الشعرية الرومانسية مكتسبة طابع الرموز والاستعارات والعلامات، بدل اللغة العادية التي تعبر على ما تواضع عليه الناس، مختلفة عن لغة التجارب الشعرية لشعراء منبج الآخرين. وتدور أغلب قصائده في وصف الجمال والمرأة والطبيعة على نحو أغرق ديوانه بإشارات بين أنياب الشكوك والأوهام وبين آلام البعد وأسقام الجفاء، وبناء على ذلك، لا غرابة أن يكون الحب نشوته وناره وقود للإبداع وأجنحة يحلق بها في سماء الشاعرية ويسابق بها الريح. بل أحياناً تحتل قصائده درباً نحو فجر الحرية والانعتاق، فينقلها بخيال خصب وصور بديعة لا تكلف فيها، ما تجعله يتوحد مع الطبيعة بين أشجارها وأطيارها ووردها. وله وقفات تأملية في حقيقة الحياة والموت والخلود والزمن وبؤس النابهين وتفاهة الحياة. وهذه السمات نجدها في عدد من قصائده مثل قصدتيه “ويعود الفجر طفلاً” و”بين العقل والقلب” التي نقتبس منها قوله:
صفدوا أفكار قومي بالوعود وسقوها بــــبريق من عهود
ورموها في بساتيــن الغوى بين أحضان الغواني كــالعبيد
هذه الأفكار مأوى ثلـــــة من بني الأهواء في هذا الوجود
إحساسه تمثلات للحقائق المادية والعاطفية
لا شك أن للأمكنة عشقها ورونقها ونقاؤها، الأمر الذي لا يستقيم للشاعر حمدو إلا أن ينتقل لوصف شوارع وحارات منبج الفيحاء فيقحم إحساسه المرهف؛ كمساحات خيالية أو بالأحرى تمثلات للحقائق المادية والعاطفية. فيذكرها في أكثر من مكان في قصائده ويُحمِّلها خلجات لحالات الغربة والابتهاج والعشق والتعلق بذاكرة المكان. ولقداستها في قلبه تغنى بها كما يتغنى بجمال المرأة، فالأرض والمرأة عنده وجهان لعملة واحدة، فالشعر يعبر من عيون المرأة، كما تخرج الأرزاق من رحم الأرض. فالمرأة تمتزج بالوطن، فتلهمه عيناها الكحيلتان وخدها المورد كإلهام زهور الأرض وحشائشها وأشجارها وطيورها، فكلاهما واهبان للحياة. وكذلك يتغنى بقضايا وطنية لا سيما فيما يتعلق بقضية فلسطين ويتمنى خلاصه لها بطرد الصهاينة وبزوغ شمس الحرية. وكثيراً ما كانت قصائده صدى لروحه المحبة للسلام لإقامة مجتمع أخلاقي حيث يعيش الناس سواء في كنف العدل والأخوة والمساواة. فمنبج تعيش في دمه كما هو يعيش تفاصيلها لحظة بلحظة ما جعله من أكثر الشعراء ذكراً لها وتغنياً من بعد الشاعر البحتري ومحمد منلا غزيل. ونرى ملامح هذه السمات في عدة قصائد، منها “دمشق” و”نجمة القلمون” و”في رحاب الفيحاء” و”أمتي حان الوثوب” و”عطريني بالتراب” التي نقتبس منها ما يلي:
عطريني بالتراب
وامزجيني في شذاك
مثل كافور زكيٍّ واطحنيني
في دقيق الخبز ملحاً
واجعليني في شرايينك روحاً
بقي أن نشير إلى أن الشاعر أحمد إلياس حمدو من مواليد قرية المحسنة 6/10/1958م؛ درس المعهد المتوسط الزراعي في دمشق وتخرج عام 1980م، ثم درس ثانية وتخرج من كلية الشريعة في دمشق في عام 2001م، عمل مدرساً في مدارس مدينة منبج لبضعة عشر سنة. كتب الشعر منذ نعومة أظفاره وصدر له ديوان “بريق الأماني” فيما له ديوان مخطوط بعنوان “حسرة وابتسامة”.