تأتي سياسة التعدي على الآثار وتشويه معالم المواقع الأثريّة التي يتبعها الاحتلال التركيّ والمرتزقة الموالين له في عفرين المحتلة في سياق خطة متكاملة متعددة الأهداف، أولها تخريب الذاكرة الثقافيّة واستهداف الأدلة التاريخيّة للوجود الكرديّ بالمنطقة، وكذلك في إطار عمليات السرقة للدفائن التاريخيّة واللُّقى الأثريّة.
خرائط معدة مسبقاً
وهي تقوم على أساس فرضية أنّ الجيش العثمانيّ خاض حروباً كبيرة في سنواته الأخيرة ما بين عامي 1916-1918 حيث عقد مؤتمر مودرس بين تركيا والحلفاء في 30/10/1918 وخلال انسحابه أقدم على دفن النفائس والذهب والأموال على كامل طريق الحجاز ومناطق متفرقة في سوريا، وكذلك في إطار نهب الكنوز الأثريّة في المنطقة حيث تنشط مافيات تجارة الآثار على الحدود، وأضحت إسطنبول سوقاً لتجارة الآثار المنهوبة من سوريا.
بات من المؤكد أن الاحتلال قد حضّر بشكل جيد خطة العدوان على إقليم عفرين وأنه حضّر خريطة تفصيلية بالمواقع الأثريّة بالمنطقة، تماماً كما حضّر بنك الأهداف العسكريّة والمرافق العامة الهامة. وقد أسند مهمة البحث والتنقيب في المواقع الأثريّة إلى عناصر المرتزقة الموالين له، فيما يقوم الاحتلال بتأمين دعمها في الآليات الحديثة من جرافات وروافع وتقديم الدعمِ اللوجيستي، والغطاء لمنع المساءلة.
ووفقاً للخرائط التفصيليّة بالمواقع الأثريّة بالمنطقة، تتم عمليات التنقيب عن الآثار بإشراف الاستخبارات التركيّة ثم تُنقل اللُّقى إلى تركيا، ومن المواقع التي استهدفها البحث والتنقيب (تل برج عبدالو، تل عين دارة، تل جندريسه، وموقع النبي هوري، تلة أرندة، تل علي عيشة، وتل زرافكة، وقرى بناحية موباتا).
استهدافٌ ممنهجٌ
استهدف القصف الجويّ التركي معبد عين دارة في بداية العدوان، وهو يعتبر متحفاً تاريخيّاً نادراً ما أدى إلى تدمير الكثير من منحوتاته البازلتية نادرة الوجود، تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد والعصر الرومانيّ. وبعد الاحتلال اختفى نَصْبُ الأسد البازلتيّ من موقع “عين دارة”، وهو من الحجم والوزن ما لا يمكن حمله ورفعه إلا بآليات ضخمة، وحولت المرتزقة الموقع إلى حقل للتدريب العسكريّ.
تعرضت آثار موقع النبي هوري (سيروس) لعملية سرقة ممنهجة، وأورد المرصد السوري لحقوق الإنسان، أنّ الاحتلال التركيّ والمجاميع الموالية له وتحديداً مرتزقة “صقور الشمال” قاموا في 10/8/2018 و6/10/2018 و3/11/2018 بأعمال حفرٍ تخريبيّة وعشوائيّة بالآليات الثقيلة (الجرافات)، ما أدّى إلى تدمير الطبقات الأثريّة دون توثيقها، إضافة إلى تدمير المواد الأثريّة الهشّة كالزجاج والخزف والفخار ولوحات الفسيفساء، وغيرها من الآثار. وكشف المرصد السوري لحقوق الإنسان عن أن “المنقبين عثروا على لوحات فسيفسائية تم تهريبها إلى تركيا بتسهيلات من المرتزقة الموالية لها عبر تجار”.
وقام مرتزقة “السلطان مراد” في ناحية بلبله بعمليات تنقيب وحفر وتجريف التربة على التل الواقع بين قرى بيباكا وقوشا، بحثاً عن الآثار، مستخدمين آليات ثقيلة واقتلعوا مئات أشجار الزيتون.
وفي كانون الثاني 2019 قام عناصر مرتزقة “النخبة” بأعمال الحفر في محيط القلعة في وضح النهار عبر عشرات الآليات الثقيلة، وطالت عمليات النبش والسرقة قبر النبي هوري، (أوريا بن حنان) أحد أبرز قادة النبي داوود، القريب من القلعة، بحجّة الترميم وتوسيع مسجدها – للتغطية على عمليات السرقة السابقة وتشويه المعالم والحقائق التاريخيّة والعمرانية – وجعلها تتناسب مع نموذج البناء العثمانيّ. وقد أعلنت مديرية أوقاف ولاية هاتاي عن خطة ترميم في مسجد النبي هوري ومسجد عمر بن الخطاب.
وأوردت مصادر موثوقة من إقليم عفرين المحتل أنّ آليات تركيّة ومعدات وأجهزة، شوهدت تعمل على تلة جندريسه، لحفر التلة والبحث عن دفائن وآثار من خلال التنقيب عنها بالأجهزة والمعدات الحديثة بإشراف فرق متخصصة في البحث عن الآثار، وأضافت المصادر الموثوقة للمرصد السوري أن الطرق القريبة من التلة والواصلة إليها قد أغلقت بشكل كامل من القوات التركية، ونشر المرصد السوريّ لحقوق الإنسان صوراً للآليات التي تعمل في عملية التنقيب عن الآثار في منطقة تلة جندريسه، وذكر أن عمليات تنقيب أخرى تجري في ريف ناحية موباتا/ معبطلي، حيث جرت عمليات التنقيب والحفر في منطقتي تل علي عيشة وتل زرافكة وكذلك التلة الأثريّة الواقعة في قرية عرابو/ عرب أوشاغي بأسلوب مشابه لما يجري في منطقة جندريسه من تنقيب وقطع للطرقات من وإلى المنطقة.
في 20/5/2020 ذكر موقع العربيّة أن عناصر من مرتزقة السلطان سليمان شاه (العمشات) باشرو بتنفيذ عمليات حفر بهدف التنقيب عن الآثار في تل “أرندة الأثري” في ناحية شيه/ الشيخ حديد. وأنَّ التل يتعرض بشكل شبه يوميّ لعمليات حفر بمعدات ثقيلة بحثاً عن الآثار ما أدّى إلى تضرر التل بشكل كبير وإحداث دمار هائل به، كما تضررت نحو 500 شجرة زيتون بالقطع والطمر، بل إنّ التل سُوّيَ بالأرض.
وفي 28/6/2020 ذكرت مصادر محلية أن عناصر مرتزقة “أحرار الشرقية” باشروا بعمليات حفر وتجريف للتربة بحثاً عن الآثار واللُّقى شرق قرية كورا التابعة لناحية راجو مستخدمين معدات حديثة، واقتلعوا أشجار الزيتون المحيطة بالموقع.
خطة للتنقيب عن الكنوز والخزائن
في سياق متصل بسرقة الآثار ونهبها، لوحظ وجود حسابات مختصة في الفيسبوك تهتم بنشر تقارير مصورة عن عمليات النبش والبحث عن الخزائن والمدفونات القديمة، وإحدى هذه الصفحات هي “صفحة كنوز ودفائن الماضي السلطان أحمد” ورابطها”https://www.facebook.com/kunozwadafa2nalmade/” وبروفايل الصفحة هو شعار السلطنة العثمانيّة، ووُجدت صفحة أخرى باسم وثائق ومخطوطات كنوز ودفائن الماضي، والشعار نفسه ورابط الصفحة (http://www.kunuzwadafayinalmadi.simplesite.com/) حيث تقوم هاتان الصفحتان وأمثالهما بنشر ثقافة النهب والحفر غير المشروع وتجارة الآثار على مستوى المنطقة، وفي مختلف المناطق السوريّة الواقعة تحت سيطرة الجيش التركيّ عبر نشر فيديوهات توثق حالات التعدّي على المواقع الأثريّة.
في العالم الافتراضيّ ثمّة مواقع وحسابات مختصة بنشر تقارير مصورة عن عمليات النبش والبحث عن الخزائن والمدفونات القديمة، وهي تقوم على أساس فرضيات أنّ الجيش العثمانيّ خاض حروباً كبيرة في أواخر أيامه.
نشرت هذه الصفحات عشرات التقارير المصوّرة عن عمليات البحث عن الخزائن في مناطق مختلفة، تستند لخرائط مشفّرة بإشارات ورموز معينة، وإحدى هذه الصفحات اسمها “كنوز ودفائن الماضي السلطان أحمد”، وتعتمد شعار السلطنة العثمانيّة، وفي 18/6/2020 نشرت مقطعاً مصوّراً قالت عنه إنّه “من أحد أعمالنا خربة قديمة وهي بقايا كنيسة بيزنطية”، ولم تكشف عن اسم المكان وموقعه، وبتدقيق الصور وتحليلها يتبين أنّ الموقع يقع في ناحية شيراوا جنوب شرق قرية باصوفان بنحو 1.5 كم ضمن حقول الزيتون التابعة للقرية، ويعرف المكان باسم “كفرلاب” أو “قرية العاقل” وهو من المواقع الأثرية القديمة، وفيه آثار كنيسة قديمة تعود إلى القرن السادس الميلاديّ.
وتتابع مديرية آثار عفرين مجمل الانتهاكات على الآثار في المنطقة وتعد التقارير لتوثيقها، وقد وثّقت في تقاريرها تلك المقاطع المصورة للتنقيب عن الآثار، وذكرت في آخر تقرير لها أنها تمكنت من تحديد موقع ثانٍ في منطقة عفرين ـ ناحية شيروا وهو موقع كفر نابو ويقع 25 كم جنوب مدينة عفرين، ومسجّل على قائمة التراث العالميّ المحمي من قبل منظمة اليونسكو منذ عام 2011، إلا أن هذا الامتياز لم يحافظ على الموقع كغيره من القرى المنسية من كارثة التدمير والخراب بعد احتلال القوات التركيّة، ويظهر الموقع من خلال ثلاثة مقاطع فيديو نُشرت على الصفحة المذكورة أعلاه بتاريخ 24/4/2020 و 30/4/2020 ويظهر فيها بناءان مميزان في موقع كفر نابو هما النزل (الفندق) وهو مبنى ضخم طوله أكثر من 30م والفيلا (منزل) المؤلفة من ثلاث طبقات. وثمّة مقطع يصوّر معصرة تكنيزية مدفنيّة، تم العمل عليها قبل سنوات، وكانت العودة إليها بغاية التصوير والتوثيق، تقع المعصرة في خربة قديمة وهي قصر يعود بناؤه إلى العهد البيزنطيّ حوالي عام 600م، مدخله يؤدي إلى نحنوي على 3 غرف مغمورة بالماء، ووُجد فيه تابوت حجريّ مغمور بالماء ووجه راهب ذو لحية طويلة مقلوب للأسفل وينظر للجدار المقابل، ومجارش المعصرة وحوضها.
وسبق أنّ نشرت مقطعاً مصوراً آخر عن عمليات حفر تحت الأرض في أرضٍ زراعية في منطقة سريه كانيه/ رأس العين، وهو عبارة عن بناء تحت الأرض يمتد إلى طوابق، وفيه ممرات وغرف.
وتأكيداً على أنّ البحث يتم وفق خرائط معدّة مسبقاً، تذكر منشورات الصفحة علانية أن عمليات البحث والتنقيب عن الآثار تتم عبر قراءة وثائق قديمة تتضمن شيفرة خاصة عبارة عن رموزٍ وإشارات. وتقسم الرموز إلى ثلاثة أقسام رئيسيّة هي: توجيهيّة، تكميليّة، تثبيتيّة، وأصعبها الإشارات التكميليّة، لأنها تعادلُ نصفَ الحلِّ وهي على أنماط: عقائديّة، تحذيريّة، جنائزيّة، تمويهيّة، وتحدد المسافة والاتجاه، والتمويهيّة تؤدي إلى قبور ومدافن فقيرة، إذ ليس كل إشارة تدل على وجود كنز. وتشير الرموز الدينيّة والصلبان عادة على قدسيّة المكان، وثمة إشارات ذات معنى مثل إشارتي الجمل المبارك والفرج.
وإذ يعمد الاحتلال التركيّ إلى سرقة الآثار وتشويه معالم المواقع الأثرية بحجة الترميم لإضفاء ملامح عثمانية عليها فإن الغاية هي شرعنة الاحتلال وفق مستند تاريخي مفبرك، مقابل الإبادة الثقافية لمكونات المنطقة. ذلك لأن الحقبة العثمانية لم تشهد حركة عمرانية بالمنطقة، بل اعتمدت على نهب خيرات الولايات التابعة لها وفرض الأتاوات.
ترميمٌ للتلاعبِ بالدلالةِ التاريخيّةِ
يأتي مشروع ترميم الآثار والمساجد في إطار مخطط، ظاهره دينيّ وباطنه سياسيّ وأيديولوجيّ، يستهدفُ دعم النفوذ التركيّ عبر بوابة المؤسسات الدينيّة. والهدف منه استحضار صورة الدولة العثمانيّة على أنها آخر مراحل لدولة الخلافة الإسلاميّة، والترويج لفكرة أن تركيا الحالية هي الوريث الشرعيّ لتلك الدولة. وتأتي سياسةُ الترميمِ ضمن خطةِ استثمارِ القوةِ الناعمةِ التركيّةِ عبر العالم، لتقديم صورة تركيا على أنها الحالة الإسلاميّة المعتدلة مقابل التطرف والتشدد.
ما تسعى إليه أنقرة بالضبط عبر الترميم هو إعادة صياغة الذاكرة الثقافية والاجتماعيّة، ذلك لأنّ لكلّ قوة تحريض، تستحضر مفاهيم وحوادث بعينها، وما تريده أنقرة هو عملية تجميل للحقبة العثماني التي تحاول إحياءها، وعلى هذا الأساس تقوم بتغيير المعطى المكاني لإحداث تغيير مباشر في المخزون الفكريّ.
في 15/5/2020 أعلنت مديرية أوقاف ولاية “هاتاي” التركيّة، ترميمها مقام “النبي هوري” الأثريّ، ومسجد عمر بن الخطاب في منطقة عفرين. وقال مدير أوقاف هاتاي، أوميت غوكهان جيجك، في مؤتمر صحفيّ: “المديرية العامة للأوقاف تولي أهمية كبيرة لترميم وإحياء الآثار التي خلفها الأجداد في سوريا، كما هو الحال في البوسنة والهرسك، وكوسوفو، وشمال مقدونيا”.
وطبيعي أّن أعمال الترميم في قلعة النبي هوري لن تستهدفَ تغييراً جوهريّاً في الشكلِ، بل في دلالته وإيحاءاته التاريخيّةِ، فالموقعُ شاهدٌ تاريخيّ مهم تمّ إهماله، رغم احتوائه على كنوز أثريّة لا تقدر بثمن، فكان في حالة مزرية، ويستهدفُ الترميمُ تحويله إلى مَعْلَمٍ سياحيّ للاستجمامِ ذي ريعيّة اقتصاديّة، وإضفاء لمسات عثمانيّة عليه، وبذلك تُستكملُ الخطة عبر مرحلتين: تغييرُ الملامح والترويجُ السياحيّ، بدون هوية ذات صلةٍ بالتاريخ الهوريّ والكرديّ، ومن المؤكد أنَّ الخطةَ مديدةٌ ولا تستهدفُ الجيلَ الحالي، ولكنها مع خطة التغيير الديمغرافيّ بالمنطقة تأخذ أبعاداً إضافيّة، وتتوضحُ خلالها نوايا الاحتلال، بربطِ ثقافةِ المنطقةِ مباشرةً بالثقافةِ التركيّةِ.
الخطة نفسها اتبعتها أنقرة في غمر منطقة “حسن كيف” في ولاية باطمان في تركيا، إذ غمرت مياه البحيرة الناشئة من سد إليسو بمساحة 300 كم2 آثاراً لإحدى أقدم المستوطنات الإنسانيّة التي يعود تاريخها لأكثر من 12000عامٍ، وسكنتها في القِدَمِ شعوبٌ عدة كالسومريين، والآشوريين، والبابليين. وتحوي كذلك آثار الدولة الأرتوقية في القرن الثاني عشر ق.م، وتتميز “حسن كيف” بمغاراتها المنحوتة داخل الصخور التي مازالت شاهدةً على الإبداع البشري قديماً، وتحتوي على الآلاف من الكهوف والكنائس والمقابر.
عمدت أنقرة إلى نقل بعض الأبنية المتصلة بتاريخ الدولة العثمانيّة إلى مواقع جديدة، مثل مئذنة مسجد “سليمان خان” ومسجد “الرزق” وحمام أرتوقلو فيما سيؤدّي امتلاء السدّ إلى تهجيرِ أكثر من 80 ألفاً من السكانِ الكردِ، ليتحقق هدف آخر ألا وهو التغيير الديمغرافيّ. وذكرت صحيفة “الجارديان” البريطانيّة في 29/9/2019، في تقرير مصوّر أنّ البحيرة الاصطناعيّة قد تبتلع مدينة “حسن كيف” ذات الأغلبيّة الكرديّة.