في المداخل القديمة، وفي الشرفات الخشبية المطلة على أعشاش الحمائم، وعلى سفوح تلال تمتد بها المراعي الخضراء، وبين الأزقة الضيقة في الحارات الدمشقية القديمة، ومع تنفُّس الصبح في أرجاء المدينة الوادعة، يسمع صوت ملائكي عذب رقيق، لا يحلو ضياء الصباح إلا بمقدمه، وبسماعه، صوت فيروز، التي حلّت في الأمكنة والأزمنة كلّها، فأينما حلّ المرء وارتحل، واتّخذ الوحدة عنوانا له واعتزل، فهناك تأخذه نفسه نحوها فهي رفيقة درب، وأنيسة وحدة، وهم عاشق، ولقاء محب، وتذكرة عودة نحو الجمال بجودة اللحن ورقته، وانتقاء اللفظ البسيط الهادف، والمعبر بشموخ الحرف، وموسيقية الكلمات.
حنجرة وترية حباها الله تفرُّد الأداء، وكساها مهابة برقة الحرف، وقوة مخرج الصوت، قوية الصخب، حين يتطلب اللحن والكلمات قوة، ورقيقة اللحن ووجدانيته بحدود الهمس، حين تُغنى الكلمات بعبرة المشتاق الوله، صوت تهادى من جبال صنين، وزنبقة تمادت في سهول البقاع، سمَت إلى مرتبة القديسين، والرهبان، والعابدين، هي وقت النشاط، ووقت بدء الحياة في كل يوم، وهي رسول عاشق قد نشرتها الرسل، وهي مهوى الطفل حين يمد يديه للقمر.
حضور فيروزي شامخ على المسارح، وعلى الشاشات، تؤدي اللقطة المُمثلة بحرفة حاذق تترجمها الكلمة البسيطة، فتصدح بها حنجرة فريدة قد حوت مقامات اللحن كلها، وحينما تغني القصيدة الفصحى، تضفي عليها جو القصيدة والزمن، التي قيلت فيه بجزالة اللفظ، ومتانة الكلمة، وبلحن مطرب مؤنس، وإن كانت القصائد قديمة وموغلة في الفصاحة، وخاصة يتأتى في غنائها للموشح الأندلسي، أو فيما سبقه من أشعار فتتجلى دقة اللحن وجودة المعنى الدقيق حين غنت للسان الدين بن الخطيب الأندلسي قصيدة تظهر البيئة الأندلسية في أحسن مواطنها بصوت فيروز الآسر:
“جَاءَتْ مُعَذِّبَتِي فِي غَيْهَبِ الغَسَقِ
كَأنَّهَا الكَوْكَبُ الدُرِيُّ فِي الأُفُقِ
فَقُلْتُ نَوَّرْتِنِي يَا خَيْرَ زَائِرَةٍ
أمَا خَشِيتِ مِنَ الحُرَّاسِ فِي الطُّرُقِ
فَجَاوَبَتْنِي وَدَمْعُ العَيْنِ يَسْبِقُهَا
مَنْ يَرْكَبِ البَحْرَ لا يَخْشَى مِنَ الغَرَقِ”
في مقهى صغير، وعلى شاطئ البحر في أنطلياس، يعبث صبي بألحان مسموعة من الحضور في المقهى المملوك لوالده؛ فيجد عشر ليرات لبنانية، فيشتري منها كمانا، وما تبقى تذكرة للدخول إلى صالة السينما، لكنه كان متمردا على اللحن والكلمات، وآثر أن يكون له شأن عظيم في الطريق إلى فيروز، ومن أروقة الإذاعة اللبنانية في العام 1949، انطلق الهرم الثلاثي في التلحين، والتأليف، والأداء الموسيقي، الذي شمل العالم العربي، وأبدل الأغنية الطويلة بالأغاني القصيرة المعبرة الرومانسية الهادفة، فأسر قلوب المستمعين كلهم، وفي أنحاء مختلفة من البلاد، التي يسمع فيها صوت فيروز.
وحيث أن خاصية الفرد المنفردة لا تنحو نحو الخلود والإبداع، إلا إذا حدث تزاوج الفرد بالآخر المكمل؛ لذلك وجدت الشخصية الرحبانية في جودة اللحن وبساطة الكلمة، وتلامس إحساس الفرد برمته في عموم البلاد حتى الأجنبية منها، وفي المقابل من هذا كله، وجد لهذا التزاوج الفني بخيال الرحابنة الفني الخالق للحن وصانعه بشخص منصور، وعاصي الرحباني ومنضمًّا لهما الموسيقي العبقري في أداء اللحن المتفرد الموسيقار فيلمون وهبة، فقد أصبح هذا الثلاثي الفني الغاية المثالية والوجودية لعالم فيروز، وطريقتها في الغناء والطرب، والأداء، وفي البروز والظهور، وتأسيس فن غنائي جديد كان المفترق الفاصل بين القديم في الغناء وأدائه، فقد كانت الأغنية الطويلة متربعة على عرش الغناء العربي، والأداء في اللحن الطويل الذي يشمل المقدمة الموسيقية الطويلة، التي تعد نموذج الغناء في تلك الفترة، متمثلة بأداء عبد الحليم حافظ، وأم كلثوم، وألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب، هذا النوع من الأداء في اللحن والطرب جعل الرحابنة بالحضور الفيروزي الخلاب الاقتصاد في اللحن، والكلمات، بل لجؤوا إلى تمثيل اللحن الموسيقي القصير، ما جعل الفرد في العالم العربي خاصة متقبلاً له، وسماعه، وإلى الطرب فيه، وهذا الذي ابتدعه الثلاثي الفني، لكنهم لم ينسوا المسرح، ولا يهجروا خشباته، ولا خانوا جمهوره المحب للحضور المسرحي، بل قلبوا المسرح وأبدلوا دوره الغنائي، وجعلوا أداة طيعة هو وجمهوره في حسن الإصغاء لألحانهم الفريدة؛ ما شكل حالة استثنائية في زمن الغناء العربي، الذي يعتمد الأغنية الواحدة والطويلة، فلم تعد عندهم الأغنية الطويلة ملجأ لإبداعهم الفني، بل ألفوا المسرحيات الغنائية باللهجة اللبنانية المحكية، التي تعالج الواقع الاجتماعي وتنتقده بأسلوب فكاهي، وبلحن صادح من الحنجرة الفيروزية، وبتعداد كثير من الأغنيات، التي تعطي كل أغنية موضوعا معينا من نقد الحاكم، إلى لطف بائع الخضار، إلى نقد رئيس البلدية، إلى فضح أساليب المخاتير، إلى تردي بعض عادات مجتمعية بأسلوب فني راقص أحيانا، متلاحم بين اللفظ، واللحن، والإداء الممتع، وبحضور جمهور كبير.
وبذرة تمازج ترتيل الثلاثة عاصي، ومنصور، وفيلمون، كانت استنادا إلى الثقافة الموسيقية والمجتمعية، والعلمية الغربية وإلى الألحان العالمية الكثيرة، وبأشعار من التراث، ومن الأدب الموسيقي العالمي المميز، وخاصة الروسي، وإلى التراتيل في الكنائس، وإننا لنجد أن الأغنية، التي غلبها الطابع السريع في الأداء تجلت بشهرة واسعة عند محبي فيروز، “يا أنا يا أنا، أنا وياك، صرنا القصص الغريبة، وانسرقت مكاتيبي، وعرفوا انك حبيبي». هذه الكلمات باللهجة اللبنانية واحدة من تلك الأغاني المستندة إلى اللحن الغربي، فقد كان لحنها للموسيقار النمساوي التاريخي موتسارت وهي السيمفونية الأربعون عنده.
وامتد التزاوج اللحني بين هؤلاء الثلاثة، التي كانت عمدته السيدة فيروز، لم يبلغه أحد من فناني الجيل الأول للموسيقا، وهو أن يرتبط ملحنون مع مطرب، أو مطربة طوال مسيرتهم الفنية، ولا يذهبون إلى سواها، فهذا التمازج في فكرة اللحن والكلمة، وأدائهما لم يبلغه أحد من فناني الجيل، أو ملحنيهم، وبذلك خلدوا في التاريخ الفني الغنائي النادر، وإن كانت فيروز قد اقترنت اجتماعيا مع عاصي الرحباني، الذي انفصل عنها فيما بعد، لكن تزاوج اللحن والكلمة كان أقوى، فظلت نهاد تصدح بألحانه طيلة حياتها الفنية؛ ما أعطاها الخلود والتميز.
وفي عام 1957 أحيت فيروز ” مهرجانات بعلبك الدولية ” فدوى في أنحاء لبنان صوتها المطلق في مسرحيتها الغنائية الأولى “جسر القمر”، وبعد ذلك توافدت للعلن مسرحيات خلدها التاريخ اللحني فكانت “البعلبكية” و”أيام فخر الدين” و”جبل الصوان” و”الشخص” و”يعيش يعيش” و” الليل والقنديل” و” صح النوم” و” المحطة” و” لولو” و”ميس الريم” وأخيراً ” بترا ” عام 1976.
فكانت هذه المسرحيات نقدا للواقع الأليم، وكانت طرحاً لفكرة معالجة هذا الواقع بشيء من اللحن، والبساطة، والكلمة الهادفة، وفي معظم أعمالها المسرحية يظهر الخير والحب منتصرين دائما، وهما الغالبان على مبدا الشر، متخذة فيروز دور البطولة فيها دائما، بالإضافة إلى الأبطال الآخرين، الذين يكملون هذا العمل المسرحي الجماعي، ثم ودعها عاصي وداعا أبديا لا رجعة فيه يوم 21 حزيران 1986، وبذلك تُطوى صفحة الإبداع الفيروزي في أوجها مع جودة اللحن، وبساطة المعنى.
وحينما كانت تجهز مسرحية المحطة دخل عاصي المشفى بنزيف دماغي، فكتب له منصور الرحباني، أغنية” سألوني الناس”، والتي عدت رسالة شوق، وانتظار لعاصي من فيروز، لكنها أصبحت بمدار الزمن عيدا ورمزا للمحبة والعاشقين على مر الأيام والسنين، لحنها زياد الرحباني، ووزع نوتتها إلياس الرحباني: “سألوني الناس عنّك يا حبيبي… كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا، بيعزّ عليي غني يا حبيبي، لأول مرة ما منكون سوا”.
وما ميز مدرسة الرحابنة مع فيروز وجود الجماعة في أداء الأغاني، وأنها لم تمدح رئيس دولة، ولا تنحني له حينما يكون حاضرا في معظم حفلاتها المسرحية والغنائية، ولا تتبنى قضية حزب معين، ولا تغني له، بل دائما تكون الدولة عامة بشخص الدولة، تكون حاضرة في ألحانها، فغنت لدمشق، وبغداد، والقدس، وبيروت، ومكة، وعمان.
فدمشق الياسمين والجوري عاصمة الأمويين تتجلى في حنجرة فيروز حين يلفها نهر بردى المنحني نحو بيروت بين الربوة وسكة القطار والأطيار تصدح مرنمة بين أشجار الحور الأبيض الممشوق يتهادى نحو العشق الدمشقي والحارات الدمشقية الشقيقة لبيروت تردد أصداء الشاعر سعيد عقل، في قصيدته التي وسمت دمسق بميسم الخلود والرمزية:
يا شام عاد الصيف متئدًا وعاد بي الجناح
صرخ الحنين إليك بي أقلع ونادتني الرياح”.
وأن كان الياسمين الدمشقي مهوى عيني فيروز والرحابنة، فقد كانت بغداد عاصمة الرشيد وجهة الحب عند فيروز حب الرافدين، وحب البلح العراقي؛ لأنها حمامة بيضاء تفرد جناحيها بين دجلة والفرات، وتلتقط مياهها وقت الأصيل بين الأهوار المتناثرة، وفيما نسب لسعيد عقل أو للرحابنة قصيدة مغناة لبغداد مطلعها:
“بغداد والشعراء والصورُ
ذَهَبُ الزمان وضوعُهُ العَطرُ
يا ألف ليلةَ يا مُكَمّلة الأعراس
“يغسل وجهك القمرُ”
ومن شط العرب تودع الرافدين، وشعب العراق، تركب أمواج الخليج مغربة نحو مكة، نحو البيت العتيق، فتتخلد مع سواد الكعبة المقدس، والناس الأتقياء يطوفون بها، فكانت ورقاء تطوف بين مآذن الحرم وساحاته، فعذبت كلمات سعيد عقل مع الحنجرة الماسية لفيروز على عتبات الربع الخالي والدهناء.
“غنيتُ مكةَ أهلَها الصِّيدا
والعيدُ يملأ أضلُعي عِيدا
فرِحوا فلألأ تحتَ كلِّ سَما
بيتٌ على بيت الهُدى زِيدا”
وعلى أطراف النيل في مصر تتعشق رؤية الأهرام والتاريخ، مصر التي كانت مهوى أفئدة المطربين، وبيت الملحنين العمالقة، فقد صدحت فيروز باسم مصر، فغنت للتاريخ والحب من كلمات الشاعر المبدع سعيد عقل، فاختلف اللحن والكلمة رغم عمالقة الملحنين المصريين، الذين كانت تعج بهم المسارح والصالات:
“مِصْرُ عادَتْ شمسكِ الذّهبُ
تحملُ الأَرضَ وتغترِبُ
كَتب النيلُ على شَطِّهِ
قِصصاً بالحبِّ تلتهِبُ”
وفي نهاية عام 1953عبر مجلة الإذاعة السورية، وفي لقاء مع الشاعر سعيد عقل، الذي كان صاحب الكلمة المغناة أورد الشاعر في حديثه عن أغنية لعمان العاصمة الأرنية، تصدح بها الحنجرة الفيروزية، عمان في القلب، وما قاله:
“عـمّان في القلب أنت الجمر والجاه
ببالي عودي مري مثلما الآه
لو تعرفين وهل إلاك عارفة هموم
قلبي بمن برُّوا وما باهوا…
وتمتد الألفاظ مع سعيد عقل، وتتموج الذكرى شبحا جنونيا تتبعه المأساة والألم الانهزامي، لما حل بالعرب عامة في النكسة الرعناء، فشمخت فيروز كعادتها بين نهر الأردن، والقدس تلم غبار الوغى بانكسار امرأة خانها الناس، فكانت زهرة المدائن اللحن الطرب، والأداء المميز، وهي التي شمت عطر الزيتون، وطهرت من ألحان المآذن:
لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي
لأجلك يا بهية المساكن
يا زهرة المدائن
الطفل في المغارة
وأمه مريم وجهان يبكيان…”
ومثلما العشاق يحملون أوراق الورد في عيد العزابية، فيقتحمون مدينة بيروت، ليختاروا عروسا لكل واحد منهم، بين هديل الحمام في مداخل ضيع لبنان المعتلية سفوح الجبال، وفي لقاء الطواحين، وجسر اللوزية، وبصيف وشتي، ومن خلف جبال الشام حبايبنا، تتربع نهاد حداد ” فيروز” الصدوحة على قامة الأغنية الهادفة الوجدانية، والعاطفية العاشقة والوطنية المنتمية بصوت خلد في التاريخ الفني، فلا يمكن أن يوجد قرينه، أو يماثله.