عبد الرحمن ربوع
يرتحل بنا عبد الرحمن عفيف في روايته “غريق نهر الخنزير” من سوريا إلى ألمانيا ذهابًا وإيابًا؛ فيحكي لنا قصص خيبات، وأحاديث إخفاقات. ويسرد لنا ذكريات عن مدن وبلدات مطلة على هذا النهر؛ وشوارعها الموحلة شتاءً وأجوائها المعفّرة صيفًا. كما يأخذنا إلى أوديته الممتلئة بكل شيء إلا الماء. يحكي لنا عبد الرحمن عفيف عن غريق أسطوري لم يسمع به أحد، ولم يره أحد. غرق ذات غفلة من الزمان في هذا النهر “الحنون”، وحتى اليوم لم تظهر جثته رغم جفاف النهر منذ عشرات السنين. غريق لم تغرقه مياه ولم يجرفه تيار، ولكنه غريق في حب هذا النهر البريء الوديع الميت.
وفي الأثناء تمرّ شخصيات.. نعرف معظمها وسمعنا عن بعضها ونجهل أخرى. وكلها محمّلة بآمالها وآلامها، وأفراحها وأحزانها.. ترمُقنا بنظرات الدهشة والغرابة، وتنفث دخان سجائرها في وجوهنا، وتُسمعنا حفنة من قصائد ومواويل.
رحلات وصور
جميل أن يكون لنهر الخنزير سرد جديد يضاف إلى سرديات أخرى عرّجت عليه في طياتها وسطورها. وجميل أكثر أن يكون هذا السرد غارقاً في الرومانسية وممتلئاً بها، لدرجة أنه يشد القارئ معه إلى آفاق لم يزرها بعد. أو يغطس به إلى أعماق لم يختبرها من قبل. كما أنه في الوقت نفسه تعبير عن حالة غرق وصلت حد الموت، غرق بلا مفر أو مهرب أو منفذ.
ويا لها من صور حسية فريدة! ذكّرتنا وحكت لنا عن براعم “تلال موزا” في الربيع، وعن سنونواتها في الصيف، وعن بتلات زهر اللوز، التي تغطي أديم الأرض قبل أن ننساها وهي تذوي في الشمس وترحل مع الريح.
ثم هناك قصص “صوفي عيسى” غير المحكية، وسرديات لا يمكن فهمها أو فهم مراميها للوهلة الأولى. تبوح أسطرُها بمكنوناتها والكلماتُ بمدلولاتها. ويتطابق العنوان والمتن ونخرج منتَشين بالجديد من الحِكم والعِبر. نصوص أشبه بقصائد انقطعت خيوط نظمِها، أو بأغانٍ تاه منها اللحن في صخب الأحداث، وهول الصدمات.
تمازج الحقيقة والخيال
وفي السرد تتكشف أجزاء من حقيقة “نهر الخنزير” وأسباب جفافه، وتحوّله إلى مكب نفايات بعد أن كان شريان حياة. ثم هناك حكايات أخرى عن دخان احتراق قلب “الشاعر عماد الحسن” ابن قرية “بريفا”، الأشبه بدخان التنانير وأسراب العصافير. نبضات وخفقات قلب تشبه إيقاعات دُفٍّ لا تنسى، تُسمع لأول مرة.
علاوة على أحاديث عن “تل شرمولا” حيث ينوح الشعراء. وعازفو الطنبور يندبون جفاف قرائحهم. أيضًا “أوحال” عامودا “الشاهقة” التي تفتك بكل الأحذية الحلبية الرديئة. ليأتي دور”آكوبي” و”حبه” الإسكافيين الأرمنيين، ليصلحاها ويعيداها إلى أقدام أصحابها، قبل أن تهترئ في القريب العاجل. ولا ينسى الحكاية عن حلوى “الطيبونيّب” و”اللقم” التي يعشقها جيران نهر الخنزير. وعن أشجار التوت التي تتراقص على أنغام تلاوة الشيخ عفيف للقرآن الكريم أو لأشعار ابن الفارض صباح مساء.
أساطير ونبوءات
والنهر الذي يخبرنا عبد الرحمن عفيف قصته، وفق الأسطورة، هو في الأصل رجل كردي هاجر عبر الحدود متخطيًا السلك الشائك فارًّا من الاضطهاد والإبادة وقطاع الطرق ليعود لاحقًا نهرًا ما لبث أن جف حين اقُتلعت عيناه خلف الحدود.
أو هو، وفق حكايات أخرى، شاعر مرّ بعامودا فتكاثر عليه الشعراء وصلبوه فاستحال نهرًا. ثم جف مع جفاف عيون المنطقة بسبب غواية شعرائها وفساد طوياتهم.
ولنرى واقع الحال وحقيقة المآل؛ يقدم لنا عفيف منظارين مقرابين؛ منظار صغير مداه بطول نهر الخنزير الممتد من الحدود إلى المسلخ إلى المقبرة. ومنظار آخر يربط الأرض بالسماء، والمكان باللامكان، ومن حيث نحن إلى حيث الله تعالى.
كوميديات بيضاء وأخرى سوداء
لا يمكن الشبع من قصص أولئك الأساطين الأسطوريين القاطنين عند ضفتي نهر الخنزير أو مروا بهما، أو عبورهما. من “الملا الجزيري” الذي اتعظ من قصة “الشيخ الصنعاني” الذي حوله عشق حبيبة أرمنية من “يريفان” إلى راع خنازير.. إلى مرثية لـ “عزو” الذي اغتيل في كوخه الكائن آخر حارة الخاتونية لكنزِه “الكليجة المحمصة”. إلى ذاك الشاعر السرياني القادم من قامشلو إلى عامودا، تثير كلماته المدويّة قرائح شعراء المدينة فيعارضونه شعرًا ونظمًا في حرب لا هوادة فيها ولا هُدَن.
ثم قصة ذاك الشاعر المتيم بـ “نيمانا” مثل كل شعراء عامودا البرونزيين أصحاب العيون اللؤلؤية. “نيمانا” الفتاة الأيقونية التي لا أرض تقلّها ولا سماء تظلّها. وهو محتار أيبني لها في خياله قصرًا أم كوخًا؟ وهل يهديها وردة أم قطة؟ وهو لا يعرف كيف يودّعها، وهو لم يرها بعد!
وفنان الصيف القائظ البارع في رسم وجه “حافظ الأسد” على آلاف اللافتات والجدران. الفنان كثّ الشارب، المعتمِر قبعة ناجي العلي. والخالة “جنديا” صاحبة العينين العنبيتين (من العنب) القاطنة عند ضفة نهر الخنزير اليمنى.
وأحلام “جكرخوين” الأفلاطونية بِرَفد أنهار الخنزير والجقجق والخابور بمياه سويدية نقية غزيرة لا تنقطع. ولأجل ذلك يعمل ليل نهار ليجعل السويد جارة شمالية لسوريا. هذا فضلا عن “آكوبي” الإسكافي عاشق الحمام، الذي يلبس حماماته أحذية باهظة الثمن صنعها من جلود نادرة نفيسة.
بالإضافة إلى “مشير طويا” الكهل الذي مازال قلبه معلقًا بصبايا عامودا الفاتنات الماشيات على ضفاف وجسور نهر الخنزير، و”مشير طويا” هو زوربا كرباوي الراقص في كل أعراس عامودا وقامشلو، الذي غادر الحياة ولم يغادر الرقص، الحالم بإنقاذ نفسه يومًا من سجون الدكتاتور. و”أوسي شارو” عازف الناي الحزين وأولاده الستة العباقرة الذين تفوق حكاياتهم أساطير الأوديسة والإلياذة فلا داعي لذكرها.
ثم يأتي المنادي لينادي بنات النهر من أعلى برج طاحونة “آشي علاوي” يدعوهن إلى كروم “وطحيّا” و”ملاحسن” و”زيفو” و”آل دربو” وفي الخريف يدعوهن إلى التبضع والتسكع في أسواق قامشلو وفي الربيع تكون الدعوة إلى “تلال موزا” احتفاءً بالنوروز وتلقى الجواب الحازم “لا لا لا”.
ثم هناك الشعر
لا يمكن لملحمة تروي قصة نهر الخنزير إلا وأن تعرج على جيش الشعراء الفقراء القاطنين عند ضفتيه اليابستين. أولئك الشعراء الذين بدلًا من كسر القلم، وهجر الكتابة كتبوا آلاف قصائد الهجاء تلعن الفقر والبطالة والجوع والأحقاد. ووظيفة الشاعر كوظيفة النجوم يمد العاشقين أسباب البقاء.
تلك القصائد التي تحولت إلى طائرات أطلقت من على “تل شرمولا”، أو سفنًا تجوب نهر الخنزير. والتي بِدَورهم نتفها حمّالو “الميرا” بجناكلهم وغمزوياتهم، أو احترقت في حادث حريق سينما عامودا. قصائد حرة بلا أوزان أو قوافي هي خلاصات آلاف الشعراء، الذين أنجبتهم عامودا. وعاشوا في حواريها وفي بيوتها الطينية أو قصورها الإسمنتية على حد سواء. وقد حظي بعضهم لرشفات عذبة من ماء نهر الخنزير، والجقجق والخابور. وبعضهم الآخر يموت كل يوم ألف ميتة حسرةً وكمدًا.
قصائد بلون زهور “العندكو الأصفر” و”العندكو الأبيض” تغسل قارئها. وقصائد صلاح رسول الملغزة، وأغانيه السريالية التي تُغني سكان قامشلو عن الكهرباء والماء الصرف الصحي. قصائد مشغولة وفق “عماد الحسن” من الاستسلام لغيوم بيضاء تمر بتلاميذ بباحة مدرسة أبي العلاء المعري الثانوية، لا تلبث أن تنقشع قبيل يوم النيروز فتستحيل معلقات وأغنيات.
ولا ينسى عبد الرحمن عفيف أن يحكي لنا عن مأساة ذلك الشاعر بلا إلهام. مأساة أوقع من مأساة الفقير الجائع العطشان. ثم هناك منافسات “محسومة” بين الشعراء الصعاليك الهائمين في وادي نهر الخنزير ومطربي الأعراس وعازفي الطنبور لصالح الأخيرين يفوزون بعد كل عرس بقلوب كل العذارى الراقصات على هدير حناجرهم ووقع أوتارهم. فيما يخرج الشعراء يجرّون أذيال الخيبة والحسرة.
إشراقات عامودية
وفي غريق نهر الخنزير نقرأ عن السعادة؛ إنها نَفَس الله العميق، الذي منحنا الحياة. وسعادتنا بقدر بقاء هذا النَفَس حيًّا فينا. كما يصف لنا العبادة التي يؤديها معظم قاطني ضفتي نهر الخنزير باعتبارها طريقة للتعرف على جمال الله وعلى حبه وعلى الفناء فيه.
كذلك يروي لنا إشراقات هي محض أفكار وتأملات وتأويلات انطباعية تصدر عن لاعقل واعٍ وعن لاوعي عاقل. والكثير الكثير من عواطف ورؤى وخيالات يفيض بها السرد في متعة وروحانية. تخلد في وجداننا ذكرى ذلك النهر البريء ضحية الجغرافيا وضحية الشعر.
عبد الرحمن عفيف: شاعرٌ وقاصّ ومترجم كرديّ سوريّ، ولد في عامودا – سوريا سنة 1971. درس في جامعة حلب الأدب العربي. يعيش منذ سنة 1996 في ألمانيا. له ثلاث مجموعات شعريّة: “نجوم مؤلمة تحت رأسي”؛ “رنين الفجر على الأرض”، و”وادي الديازيبام”. وثلاث مجموعات قصصية: “الحجحجيك”؛ “في سيارة ابن الصراف”، و”دموع الملائكة أو السعادة المطلقة”. وله في الترجمة عن الألمانية: “الثلج يهبّ على الألفباء: قصائد مختارة من الشعر الألماني”، و”شوقاً إليك أبليت الزناجير: قصائد للشاعر أحمد عارف”.