كشّرت أنقرة عن مخلبٍ وسرعان ما أبدلته بآخر، لتنهشَ مجدداً في الجسد الكرديّ، في باشور كردستان، وتنتهك كعادتها القوانين والأعراف الدوليّة، فتمارس القتلَ عبر الحدودِ، والحجّة الحاضرة “الأمن القوميّ” الذي لم يعد له حدود، إذ لم يعد يقتصر على الحدودِ مع دولِ الجوار، بل تجاوز البحر إلى ليبيا وتوغل جنوباً بالمنطقة العربيّة إلى اليمن.
استبدالُ المخلب
في 14/6/2020 أعلنت وزارةُ الدفاعِ التركيّة، إطلاقَ عمليةِ “مخلب النسر” العسكريّة في باشور كردستان، وكعادتها في فبركة الإنجازات قالت في بيان نشرته يوم الخميس 18/6/2020، زعمت أنّ القوات التركيّة ضربت أكثر من 500 هدفٍ لمقاتلي حزب العمال الكردستانيّ بطائرات إف-16 والطائرات المسيّرة والمدفعيّة في إطار عملية في منطقة هفتانين.
وأصدرت قيادة العمليات المشتركة العراقيّة بياناً الأحد رداً على اختراق طائرات تركيّة الأجواء العراقيّة. واستنكر البيان اختراق 18 طائرة تركيّة المجال الجوي العراقيّ، حيث اتجهت إلى سنجار، مخمور، الكوير، أربيل وصولاً إلى قضاء الشرقاط بعمقِ 193 كم من الحدود التركية، واستهدفت مخيماً للاجئين قرب مخمور وسنجار.
ويوم الأربعاء 17/6/2020 أعلنت وزارة الدفاع التركيّة، أنّ قواتها انتقلت إلى عملية “مخلب النمر”، في منطقة “هفتانين”، في إشارة إلى العملية البريّة.
وتواصل أنقرة عمليتها فيما تواصلت ردود الفعلِ العربيّة الرافضة للعملية واستدعت الخارجية العراقية إنها استدعت السفير التركي فاتح يلدز وسلمته مذكرة احتجاج، مُعتبرة ما حدث “انتهاكا لحُرمة وسيادة الأراضي والأجواء العراقيّة”. وطلبت الخارجية العراقية من السفير التركي في بغداد نقل مطالبها لأنقرة باتخاذ إجراءات كفيلة بوضع حد لوقوع هذه الانتهاكات في المستقبل.
اختراقٌ متعددُ المستوياتِ
وإذ تنفذ أنقرة عملية عسكريّة في باشور كردستان فإنّ علاقات مع هولير لم تنقطع وهناك تبادل للزيارات الرسمية على أعلى المستويات، وفي الوقت نفسه تتعدد مستويات الاختراق التركيّ لباشور كردستان، ومن اللافت اهتمام أنقرة بزيادة النشاط الاستخباراتيّ، حيث تنتشر مقرّاتُ الاستخبارات التركيّة بشكل ملحوظ في مدن في هولير وأمديه مدينة دهوك في حي (كري باسي) قضاء زاخو، وتعمل من خلالها على فتح أقنية التواصل مع استخبارات حزب PDK. وفي المستوى الإعلاميّ دعمت أنقرة مؤسسات إعلاميّة فيها مهمتها تجميل صورة العلاقة مع تركيا وخلق حالة تشويش ونقل معطيات مغايرة عن الواقع عن العمليات العسكريّة التركيّة في باشور كردستان، وتنشط الاستخبارات التركيّة في محافظة السليمانيّة ومدن حلبجة وكرميان نفوذ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني YNK أيضاً، باسم الشركات الخاصة.
تنشط الاستخبارات التركيّة على نحو خاص في محافظة كركوك وبقية مناطق الوجود التركمانيّ، والمعروف أنّ الجبهة التركمانيّة بالعراق تأسست بدعم وتمويل تركيّ وهي واجهة الاستخبارات التركيّة،
الاختراق الأكثر عمقاً يشمل المجال الاقتصاديّ، وفي مقدمها النشاط التجاريّ ويلاحظ غزو البضائع التركيّة الأسواق، فيما تعمل نحو 1350 شركة تركيّة في مجال تعهداتِ العمران والإنشاءات، والاستثمارِ في قطاعات مختلفة.
اختراقٌ في العُمقِ الجغرافيّ
أقر بن علي يلدرم، رئيس الوزراء التركي السابق في مؤتمر صحفي ببغداد في 5/6/2018، بوجود 11 قاعدة عسكرية، وقال: “قمنا بإنشاء 11 قاعدة عسكريّة وضاعفنا عدد جنودنا وقواتنا في تلك القواعد”. وأشار إلى احتمال توغل جديد للقوات التركيّة.
ونقلت رويترز في 17/6/2020 عن مسؤول تركيّ بارز نية أنقرة مواصلة عملياتها العسكريّة وإقامة المزيد من القواعد العسكريّة المؤقتة في شمال العراق. وأشار المسؤول إلى أن الخطة هي إقامة قواعد مؤقتة في المنطقة.
وقال عضو تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستانيّ في دهوك علي ورهان في تصريح صحفيّ: “عدد القواعد التركية الرسمية داخل إقليم كردستان هي ١٩قاعدة. وأضاف: “أكبر القواعد هي تلك التي تقع في منطقة كوني ماسي بمحافظة دهوك، وهي معسكر هجوميّ ويضم حوالي 1500 عنصر من القوات التركيّة المدرّعة”.
ووفقاً لورهان فإنّ القواعد التركيّة عمق وجود القواعد التركية تجاوز 40 كم داخل الحدود، وفيها قواعد كاملة للمخابرات وعناصر الأمن التركيّ يقومون أعمال التجسس والمراقبة داخل باشور كردستان.
وقال مسؤول الإعلام في الاتحاد الوطنيّ الكردستانيّ بمحافظة نينوى غياث سورجي: “القوات التركيّة موجودة فوق جبل بعشيقة بسهل نينوى منذ أكثر من خمس سنوات، وعدد القوات التركيّة نحو 600 عنصر من الجيش والمخابرات، وهم عبارة عن قوّة مدرعة تصلها الإمدادات العسكريّة والغذائّية عن طريق الطائرات التي تهبط داخل القاعدة إذ تحتوي على مدرّجٍ عسكريّ”. وأضاف سورجي: “القوات التركيّة تخترق الحدود العراقية بواقع 400 كم، في منطقة لا وجود فيها لعناصر حزب العمال الكردستاني إطلاقاً، ولكن هي منطقة استراتيجية مهمة وتسيطر من خلالها تركيا على محافظتي نينوى وأربيل، كونها تتواجد على قمة جبليّة مرتفعة تقع بين المحافظتين المذكورتين”.
قواعدٌ عسكريّة واتفاقاتٌ
لم تكن تمتلك تركيا قواعد عسكرية خارج أراضيها باستثناء وجودها في شمالي قبرص، الذي يعود لعام 1974، لكن تلك السياسة تغيرت منذ وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يحلم بالمزيد من المكتسبات والمطامع في المنطقة العربية، حيث يواصل عدوانه، ويدفع بمليشياته في البلدان العربيّة، واعتمد سياسةَ إنشاءِ القواعد عسكريّة في عدد من دول المنطقة.
أنشأ الاحتلال التركيّ مراكز ومخيمات للاستخبارات التركيّة في مناطق دهوك وزاخو (المعروفة بمنطقة بهدينان) وهولير الخاضعة لسيطرة بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK، وفي عام 1997، وبعد حملة “المطرقة” العسكريّة، حوّلت أنقرة تلك المراكز إلى قواعد عسكريّة. في عام 2014 أنشأت تركيا قواعد عسكريّة إضافيّة في بعشيقة وصوران وقلعة جولان. وحوّلت المقر العسكريّ القديم في منطقة حرير قرب مدينة هولير إلى قاعدة عسكريّة، وافتتحت مخيماً بهدف التدريب في منطقة زمار. وقد زاد الجيش التركي من وجوده العسكريّ في باشور كردستان منذ آذار 2018 وأنشأ ثلاث قواعد عسكرية جديدة، في كل من منطقتي خاكورك وكاني راش.
تتوزع القواعد العسكريّة في مناطق: باتوفان، أمديه، دير لوك، القاعدة العسكريّة واللوجستيّة في بارميرني، وتحتوي على مطار، مجمع بيكوفا (كري بيي)، وادي زاخو، شيلادزي، شيرتي، كوبكي، كومري، برواري، كوخي سبي، دريي دواتيا، جيل سرزيري، والقاعدة العسكريّة في ناحية زلكان قرب جبل مقلوب في بعشيقة. وفي محيط منطقة متينا تنتشر قواعد عسكريّة في محيط دشتان وكاراتاش وتبه سور ومحمد جيك تبه سي وكاني ماسي (كري باروخي)، وتلال أخرى وهي: أشوتي، زاويتي، كوبرولو، سربستا، أروشي والأمينه. منطقة زاب يوجد المركز العسكريّ (49).
لا توجد إحصائيّة رسميّة لتعداد الجنود وعناصر الاستخبارات الأتراك في باشور، وثمّة من يقول إنهم بحدود ثلاثة آلاف جندي إضافة إلى ألف عنصر من الاستخبارات، فيما تقول مصادر إعلاميّة إنّ العدد أكبر من ذلك،
تحتج أنقرة في عدوانها باتفاقات عسكريّة أبرمتها مع بغداد ومنها اتفاقية التعاون وأمن الحدود الموقّعة عام 1983، والتي تسمح لتركيا تنفيذَ عملياتٍ داخل العراق، كما وُقِّع بروتوكول أمنيّ بين تركيا والعراق في تشرين الأول 1984، وبموجب البروتوكول يُسمح للقوات التركيّة اجتياز الحدود بعمقِ 5 كم دون إبلاغ السلطات العراقيّة. وجُددت الاتفاقية عام 1995 لمدة 20 سنة وتسمح بتوغل بعمق 15 كم. وفي 22/9/2007 اتفق العراق وتركيا على توقيع اتفاقية أمنيّة في أنقرة بين وزيري الداخلية التركي بشير أطالاي ونظيره العراقيّ جواد البولاني. ووقعت الحكومتان العراقية والتركية اتفاقات اقتصادية وعسكرية وأمنية في 25/12/2014خلال زيارة قام بها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى تركيا.
وفي 2/10/2012 ذكرت فرانس 24 أنّ نيجرفان بارزاني رئيس حكومة باشور كردستان أعلن في شباط 2008 أنّ “وجودَ القواعد التركيّة جاء بالتنسيق مع السلطات باشور عام 1997”.
نفذت أنقرة سلسلة عملياتٍ عسكريّة، وبالمقابل سُمح للعراق بموجب الاتفاقية تنفيذ عمليات عسكريّةً ضمن الأراضي التركيّة ضد الكرد خلال الحرب مع إيران التي دامت نحو 8 سنوات، لكن العراق لم يتجاوز الحدود.
الحملاتُ العسكريّة التركيّة على باشور
سلسلة من عمليات الغزو والعدوان والقتل العابر للحدود قامت بها أنقرة، في إطار اتفاقية التعاون وحماية الحدود بين تركيا والحكومة العراقيّة.
في 25/5/1983بدأت أنقرة أولى عمليات الغزو وشارك فيها أكثر من سبعة آلاف جندي تركيّ.
وفي 15/8/1984 أعلن حزب العمال الكردستانيّ بدء الكفاح المسلح ضد قوات جيش الاحتلال التركيّ في شمال كردستان، وردّت أنقرة بشن حملة عسكريّة في تشرين الأول 1984 ولكنّها باءت بالفشل.
العملية الثالثة بدأت في 12/8/1986، واستهدف جيش العدوان التركيّ بيشمركة مواقع حزب الديمقراطيّ الكردستاني PDK، ما أسفر عن استشهاد مدنيين ومقاتلين من البيشمركة.
العملية العسكريّة الرابعة أُطلق عليها اسم Supurge أي المكنسة، بدأت في شباط 1991، ومُنيت بالفشل. وفي تشرين الأول 1991 نفّذت تركيا حملة جديدة تدخلت قواتها مباشرة في أراضي باشور كردستان وبُدئ بتأسيس مقرات للاستخبارات التركيّة.
بعد أن تلقت تركيا ضربات عنيفة ومنيت بخسائر كبيرة في حربها ضد قوات الكريلا، بعث الرئيس التركيّ حينها تورغوت أوزال” برسالةٍ طلب فيها من حزب العمال فيها تخفيف العمليات العسكريّة، في حين كانت تركيا تخطط لشن المزيد من الهجمات. وفي 8/5/1992 شنت حملة عسكرية أخرى تحت مسمّى Sizma.
وشن جيش الاحتلال التركيّ في 12/10/1992 بمشاركة 15 ألف جندي ومدافع ودبابات وبتغطية جوية وطيران حربي ومروحي حملة أخرى ضد العمال الكردستاني، وفشلك الحملة ولم تتمكن من الصمود والبقاء أكثر من عشرين يوم ثم انسحبت.
كما نفذ جيش الاحتلال التركيّ عمليّة بريّة في 10/6/1993، تلتها عملية في 28/1/1994. وفي 6/2/1994 قام الجيش التركيّ بعملية توغلٍ بريّ في منطقة مزري وكاريه دري. لكنها فشلت. وألحقتها في نيسان 1994 بعملية استهدفت المنطقة نفسها وكانت النتيجة الفشل أيضاً.
في 20/3/1995 بدأ جيش الاحتلال بتنفيذ عملية الفولاذ وهي أكبر عملية عسكريّة خارج البلاد، قادها 13 جنرال في الجيش وشارك فيها 35 ألف جندي وكان الهدف منها السيطرة على منطقة هفتانين. هذه الحملة التي نفذت بدعم من قبل الحزب الديمقراطيّ واستمرت العملية حتى4/5/1995.
في 6/3/1996 نفذ جيش الاحتلال التركي حملة عسكرية أخرى استهدفت مناطق سينهات وهفتانين وقلعة رش وراح ضحيتها عدد كبير من المدنيين. وفي شهر كانون الأول 1996 وبدعم من قبل بيشمركة PDK نفذ جيش الاحتلال التركي عملية أخرى في نفس المناطق.
في 14/5/1997 نفذ جيش الاحتلال التركي عملية عسكرية أخرى وبمشاركة أكثر من خمسين ألف جندي في حملة أسمتها Balyoz أي المطرقة. لكن وبعد أن تمكن مقاتلو العمال الكردستاني من إسقاط مروحيتين وقتل قيادات الحملة، أجبر جيش الاحتلال على إنهاء الحملة.
وفي 25/9/1997 وبمشاركة مئة دبابة وعشرات الآلاف من الجنود، شنّت هجومها من جديد وبدعم من قبل بيشمركة PDK، الحملة التي أطلق عليها اسم عملية الفجر منيت بالفشل كسابقاتها.
في ربيع 1998 بدأ القوات التركيّة حملة عسكريّة باسم Mûrat، شارك فيها أكثر من 40 ألف جندي تركيّ، وتوغلت توغلت في أراضي باشور كردستان ولم تحقق أهدافها المرسومة. كما نفذ جيش الاحتلال التركيّ عملية عسكريّة في عام 1999.
في 20/5/2000، شنّ جيش الاحتلال التركيّ بمشاركة بيشمركة PDK هجوماً كبيراً على منطقة هفتانين. وبعد معارك كبيرة، أُجبر جيش الاحتلال على الانسحاب بعد أربعة أيام فقط.
في كانون الأول 2007 بدأ الجيش التركيّ حملة عسكريّة اعتمد فيها بشكل أساسيّ على “الطيران الحربيّ والحوامات”، ولم تتحقق النتائج المطلوبة.
في 21/2/2008 جدد جيش الاحتلال التركيّ حملته البرية خارج البلاد تحت مسمّى Guneş Harekati أي “عملية الشمس” في منطقة زاب بمشاركة كبيرة من القوات الجويّة والبريّة، وشهدت منطقة زاب معارك كبيرة ومقاومة عظيمة، أسفرت عن مقتل عشرات جنود جيش الاحتلال وإسقاط مروحية، وفي 29/2/2008 أنهت القوات الغازية العملية، وفرَّ الجنود الأتراك من المنطقة، وكان الهدف من الحملة السيطرة على منطقة جمجمي الواقعة ما بين منطقتي زاب وزاغروس.
في 23/1/2019 شنّت طائرات الاحتلال التركيّ غارات جوية على منطقة ديرلوك وأدى القصف الجويّ التركيّ إلى استشهاد أربعة مدنيين. وفي ردٍ جماهيريّ على العدوان خرج أهالي ديرلوك يوم 26/1/2019في مظاهرة تعبيراً عن رفض وجود القواعد التركيّة في أراضيهم واتجهت المظاهرة الغاضبة إلى مقر عسكري تركي فيّ محيط ديرلوك. وهاجموا المقر العسكريّ وأحرقوا الخيم والعتاد وآليات ودبابات تركية داخل القاعدة، وأسروا جنديين تركيين وسلموهما إلى قوات البيشمركة. وفي تلك الأثناء نفذت الطائرات الحربية التركية طلعات جوية على ارتفاع منخفض لترهيب المدنيين وقصفت أماكن أخرى من محيط شلاديز وديرلوك وزاب. كما أطلق جنود الاحتلال التركيّ النار على المدنيين ما أدى لاستشهاد مواطنين اثنين. وبعد الحادث اتصل وزير الخارجية التركيّ مولود جاويش أوغلو برئيس وزراء إقليم باشور كردستان نيجرفان برزاني. وأكد البرزاني أن حكومة الإقليم بدأت بالتحقيق فوراً في الحادث مطمئناً الجانب التركيّ بأن الأمور تحت السيطرة.
كلّ هذه العمليات العسكريّة التي خاضتها أنقرة أضرت بمصالح تركيا نفسها، فيما الصلفُ العثمانيّ يقودُ الحكومةَ الحالية لمزيد من العدوان، طمعاً بالمغنم والسلب، وتتوهمُ أنّ تتجاوز عقدة الفشل على مدى عقودٍ.