سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

عطش مصر… تدعمه أنقرة

تحقيق/ رامان آزاد –

تواصل أنقرة العمل على إنفاذِ مشروعها الاستعماريّ الحالم بالمنطقة باستثمارِ كلّ الأدواتِ السياسيّة والاقتصاديّة والعواملِ التاريخيّةِ والدينيّة، ولا تتورعُ عن التلاعبِ بأمن الدولِ عبر استخدام المرتزقة وتوريدِ السلاحِ للجماعاتِ الإرهابيّة، ومع سقوطِ مشروعها في مصر بدأت حملة مركّزةً ضدها، بدعم المرتزقة الموالين لها في ليبيا، والتوجه جنوباً والضغط على حكومة أديس أبابا لإفشال المفاوضاتِ المصريّة حول سد النهضة لضرب اقتصادها عبر خفضِ حصتها من مياهِ نهرِ النيلِ بالتواطؤ مع قطر، لتعيدَ بذلك فصلاً آخر من حربِ المياه، كما فعلت عبر سدود أتاتورك وأليسو وأورفا وبيره جيك وسواها لخفض حصص سوريا والعراق من المياه.
انتقام من مصر
تسعى أنقرة للانتقام من مصر التي فجرت ثورة 30/6/2013 وأسقطت حكم الإخوان المسلمين وأنزلت الضربة القاضية بمخطط أردوغان في التدخل في شؤون مصر الداخليّة، وفي الإطار تؤدّي أنقرة ومعها الدوحة دوراً مشبوهاً في دعم إثيوبيا في ملف سد النهضة، الذي يؤثر مباسرة في تدفق مياه النيل شريان الحياة في مصر، في محاولة تعطيشها وضرب اقتصادها وحرمان مصر من حقّها التاريخيّ في مياه النيل، عبر إفشال المفاوضات ودفع أديس أبابا للتعنت
سد النهضة أكبر سد كهرومائيّ في القارة الإفريقية والسابع في العالم يفترض أنّ يؤمن 6450 ميغاوات من الطاقة الكهربائيّة، وتبلغ مساحة بحيرته 1800 كم2 بطاقة تخزينيّة تُقدّرُ بـ74 مليار م3. وقد بدئ البناء فيه عام 2011 بكلفة تتجاوز 4.7 مليار دولار، وصادف مشاكل في التمويل وفي المواصفات الفنية، وتسعى أثيوبيا إلى ملئها خلال 3 سنوات، فيما تطالب مصر بالتدرج في الملء على مدى 7 سنوات، كيلا تتأثر حصص الدول المتشاطئة، علماً أنّ 11 دولة في شرق أفريقيا تستفيد من النيل الأزرق، تضم 257 مليون إنسان.
وقد أعلنت أنقرة عن دعمها لمشروعِ بناء سدِّ النهضة، ومدّ الحكومة الإثيوبيّة بالمعدات والأموال اللازمة، لضمان نجاح المشروع، لتقليص حصّة مصر من مياه النيل، البالغة نحو 55.5 مليار م3 سنويّاً، فيما حصة السودان 18.5 مليار م3 وفق اتفاقية القاهرة 1959، ما يترتب على ذلك تراجع المساحات الزراعيّة بنسبة 25%، وزيادة معدلات البطالة.
تركيز أردوغان على كان بسبب دورها إثيوبيا المحوريّ في المنطقةِ؛ فهي تتحكم بمنابع النيل الأزرق الذي يشكّل 80% و85% من إجمالي مياه نهر النيل، ما يجعل جميع دول حوض النيل البالغة (11 دولة) مرهونة بموقفِ أديس أبابا من بناء السدود المائيّة وهو ما ظهر جليًّا في أزمةِ سدِّ النهضة.
الدورُ المشبوهُ الذي لعبته تركيا وقطر أدّى إلى تعثرِ مفاوضاتِ سدِّ النهضةِ في الولايات المتحدة الأمريكيّة ورفض أديس أبابا التوقيع على الاتفاق، فقد أوصلت أنقرة والدوحة رسائل مباشرة عبر زياراتِ مسؤوليها إلى أديس أبابا مفادها أنّ الموافقةَ على المفاوضاتِ مع مصر ستكونُ لها تداعياتٌ مباشرةٌ وخسائر كبيرة لن تستطيع إثيوبيا تحملها، وأولها سحبُ الاستثماراتِ القطريّة والتركيّة.
تركيا هي إحدى الدول الممولة لسدِّ النهضةِ، عبر مشروع استثماريّ زراعي ضخم، لزراعة مليون ومائتي ألف فدان في منطقةِ السد، ومع انطلاق المفاوضاتِ برعايةٍ أمريكيّة بادرت أنقرة للتحرك في هذا الملف دفع إثيوبيا للتعنت. وتبلغ استثمارات تركيا في إثيوبيا أكثر 2.5 مليار دولار، وتتطلع أنقرة إلى زيادتها إلى 10 مليارات دولار، ويوجد في إثيوبيا حاليًا أكثر من 350 شركة تركيّة، دخلت منها 120 شركة في 2014، ويعمل بها أكثر من نصف مليون إثيوبيّ.
مفاوضات متعثّرة
في 17/6/2020 انتهت المفاوضات الرسميّة بين مصر والسودان وأثيوبيا، دون تحقيق تقدمٍ يُذكر بسبب المواقف الإثيوبيّة المتعنتة في الجانبين الفنيّ والقانونيّ، حيث رفضت، خلال مناقشة الجوانب القانونيّة، إبرام الدول الثلاث اتفاقية ملزمة وفق القانون الدوليّ، وتمسكت بالتوصل إلى مجرد “قواعد إرشادية” يمكن لإثيوبيا تعديلها بشكل منفردٍ. وقال وزير الري المصريّ الدكتور محمد عبد العاطي: إّن إثيوبيا سعت إلى الحصول على حق مطلق في إقامة مشروعات في أعالي النيل الأزرق، ورفضت الموافقة على أن يتضمن اتفاق سد النهضة آلية قانونيّة ملزمة لفضِّ النزاعات، كما اعترضت على تضمينِ الاتفاق إجراءات ذات فاعليّة لمجابهة الجفاف.
في 26/6/2020عُقدت قمة ضمّت رؤساء جنوب أفريقيا وكينيا ومالي والكونغو ومصر وأثيوبيا ورئيس الحكومة السودانيّ ورئيس المفوضية الإفريقيّة. وفي 3/7/2020 استؤنفت المفاوضات برعاية جنوب أفريقيا بوصفها الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقيّ على أساس الالتزام بإعلان المبادئ الموقّع بين البلدان الثلاثة في آذار 2015 كأساس تُبنى عليه صياغة كافة البنود الفنيّة والقانونيّة التي تقضي للاتفاق النهائيّ. ويتضمن الاتفاقية التزام البلدان الثلاثة باتخاذ كافة الإجراءات المناسبة لتجنب التسببِ في ضرر ذي شأن خلال استخدامها للنيل الأزرق، وفي حال حدوث ضرر ما تلتزم الدولة المتسببة في إحداثه باتخاذ كافة الإجراءات المناسبة بالتنسيق مع الدولة المتضررة لتخفيف أو منع هذا الضرر، ومناقشة مسألة التعويض كلما كان ذلك مناسباً.
مصر هي أكثر البلدان جفافاً في العالم، وتعتمد على نهر النيل في 97% من مواردها المائيّة، ويعيش سكان مصر الذين يتجاوز عددهم 100 مليون نسمة على 5% من الأرض حول النيل في الدلتا، وبالتالي موضوع التعامل مع الجفاف بالنسبة لها أولوية وتمثل أهمية قصوى في التفاوض. كما أنّ تخفيض حصة مصر ستسبب بخسارة نحو 10 مليار م3 من حصة مصر من المياه سنويّاً، وبالتالي نقصاً في مخرون بحيرة ناصر (سد أسوان).
أما تداعيات بناء يد النهضة على السودان، فتبدأ بانخفاضِ الطاقة التخزينيّة لسد الروصيرص الذي يبعد نحو 100 كم عن سد النهضة، فيما تمتد بحيرته إلى الحدود السودانيّة- الإثيوبية، وتبعد 15 كم من سد النهضة، ولفت إلى أن السعة التخزينية لسد النهضة تساوى 10 أضعاف السعة التخزينيّة لسد الروصيرص، وقال وزير الري والموارد المائيّة السودانيّ، ياسر عباس، في مؤتمر صحفي، أمس الأول وأكّد: “ما لم يتم التنسيق، فإن هنالك مخاطرة في تشغيل سد الروصيرص”.
زيارات واتفاقات عسكريّة ومخاوف
في 31/1/2014 زار أحمد داوود أوغلو أديس أبابا وعرض على الحكومة الأثيوبيّة  “الخبرة التركيّة” في بناء سد النهضة الذي يثير أزمة بين أديس أبابا والقاهرة،  في 22/1/2015 زار أردوغان أديس أبابا رافقه وفدٌ كبيرٌ ضم عدد من الوزراء، بالإضافة إلى رجال الأعمال. ووقع اتفاقية تعاون لتوليد الطاقة الكهربائيّة من سد النهضة، وإيصالها إلى دول الجوار، ووقَّعت أنقرة اتفاقية دفاع مشترك مع أديس أبابا في أيار 2013، وتنص على تدعيم التعاون في مجال الصناعات الدفاعيّة، وأن تقدم تركيا دعماً فنيّاً ولوجستيّاً؛ لزيادة قدرات إثيوبيا العسكريّة، ونقل التكنولوجيا الدفاعية، والتعاون بين شركات الصناعات الدفاعيّة. وجاء في إعلان البيان الختاميّ لاتفاقية الدفاع المشترك: «تنقل تركيا خبرتها في بناء السدود وتساعد في الدفاع عن السد ضدّ أيّ تهديد»؛ ما يؤكد أن مصر هي المقصودة من هذه الاتفاقية”.
تعهدت تركيا في إطار تعاونها العسكريّ مع إثيوبيا، بحماية إنشاءات السد، بواسطة أجهزة رادارات تركيّة، تستخدم للإنذار المبكر، ومدّ إثيوبيا بنظام صواريخ «تركيّة- إسرائيليّة» مشتركة الصنع. وتتضمن اتفاقية عسكريّة توريد أسلحة إلى أديس أبابا بقيمة مليار دولار.
في 28/12/2016 وقعت تركيا وإثيوبيا، خلال زيارة وزير الاقتصاد التركي إلى أديس أبابا، خمسَ اتفاقياتٍ تعاونٍ ومذكراتِ تفاهمٍ لتعزيز التعاون الاقتصاديّ بين البلدين، تشملُ قطاعي المعادن والهيدروكربونات خلال المرحلة المقبلة.
استغل أردوغان رغبة إثيوبيا في الانفتاح على العالم الخارجيّ ورغبتها في استعادة دورها كلاعب أفريقيّ رئيسيّ، بعد أن مرّت بمراحل العزلة في السنوات الأخيرة نتيجة أزماتها الاقتصاديّة والنزاعات العرقية. لذلك قدّم الرئيس التركيّ بلاده على أنّها الداعم الرئيسيّ لأديس أبابا، ورفع مستوى العلاقات سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً ومن جملة ذلك تمويل مشروعGERD  (مرض الإرجاع المعديّ المريئي المنتشر بين مواطني اثيوبيا).
إلا أنّ عاملاً خفياً يقفُ خلف الرضوخ الأثيوبيّ، فأنقرة تتلاعب باستقرار إثيوبيا عبر دعم الجماعات الانفصاليّة العرقيّة فيه بالسلاح، هو استمرار التمدد في الصومال دون أن تزاحمها أديس أبابا، عبر إشغالها بالاضطرابات التي تشهدها البلاد؛ حيث يريد الرئيس رجب أردوغان التوغل بالقرن الأفريقي عبر بوابة الصومال، لتحقيق أهداف، وقد ضبطت شحناتٌ من السلاح مرسلة إلى أثيوبيا خلال آذار هذا العام.
في 10/4/2017 توجّه تميم أمير قطر إلى إثيوبيا بعد قطيعة ست سنوات، ويتعهد بتقديم تمويل سد النهضة وتسريع وتيرة بناء السد وضخّ استثمارات كبيرة من ضمنها تمويل لمشروع السد، تحصل قطر بالمقابل على حق زراعة 1.2 مليون فدان في منطقةِ السد للمنفعة القطريّة
المفاوضات حول السد بدأت بالتوازي مع بدء العمل فيه ولمنها لم تفضِ إلى أيّة نتائج إيجابيّة وأعلنت مصر في تشرين الأول 2019 الوصول إلى حائط مسدود، وفي 6/11/2019 بدأت المحادثات مجدداً في واشنطن.
اختراقٌ متعددُ المستوياتِ
اعتمدت أنقرة على القوة الناعمة والمساعدات الإنسانيّة في اختراق أثيوبيا، لتضمن لنفسها موضع قدمٍ فيها. ولعب أردوغان في مخطط الغزو على وتر العلاقات التاريخيّة بين الدولة العثمانية وبلاد الحبشة، واتصالات السلطان عبد الحميد الثاني مع الإمبراطور الإثيوبيّ منليك منذ عام 1896، حيث افتتحت أول قنصلية تركيّة في مدينة هرر عام 1912، وافتتحت السفارة عام 1926.
حرص أردوغان على تطوير العديد من المناطق الإثيوبيّة ذات العلاقة بالتاريخ الإسلامي، مثل منطقة نجاش، وترميم مسجد النجاشيّ التاريخي في إقليم تجراي شمالي إثيوبيا، وترميم القنصلية العثمانيّة.
كما تمكنت تركيا عبر منظمة التعاون والتنسيق التركية «تيكا»، من التدخل في الشؤون الإثيوبية، منذ افتتاح مكتبها في أديس أبابا عام 2005، وركزت أنشطتها على الترويج للتعليم التركي، باعتباره أكثر أدوات الاختراق الثقافي فاعلية، من خلال المنح والبعثات التعليمية إلى الجامعات التركية. كما تعمل «تيكا» على تقديم المساعدات الطبية للمستشفيات في إثيوبيا، ولاسيما مستشفيات الأطفال؛ لخلق جيل يدين بالولاء لتركيا.
اعتمدت أنقرة على وكالة التنسيق والتعاون “تيكا”، فافتتحت المشروعات التي تخاطب الأطفال، آخرها حديقة ألعاب في أديس أبابا، وجددت بعض مرافقها.
في عام 2014 افتتحت وكالة الأناضول مكتبها الإقليميّ في أديس أبابا، لتقوم بدور استخباراتيّ وعيّنت لإدارته الصحفيّ الإريتريّ الإسلامي محمد طه توكل، بتزكية من الدوحة، فقد قام بتأسيس مركز الخليج للخدمات الإعلاميّة، بتمويل قطري، في أديس أبابا عام 1994، وبنى عبر المركز علاقات وثيقة بالمسؤولين في إثيوبيا ودول القرن الأفريقي، لاسيما أجهزة المخابرات. وتتخذ الاستخبارات التركيّة من مكتب الأناضول مقراً، لعقد لقاءاتها وممارسة نشاطاتها، ورُصدت زياراتٌ متكررة لمسؤولين أتراك إلى مقر الوكالة، من بينهم أحمد دوواد أوغلو والدبلوماسي التركيّ أحمد يلدز. ويُعقد في مكتب الأناضول اجتماعٌ أسبوعيّ يوم الأحد من كل أسبوع، يترأسه شخص تركيّ غير مدير المكتب، بحضور شخصيات من السفارة التركيّة وشخصيات الاقتصادية ورجال الأعمال أتراك.
استغلت تركيا الأزمة الإنسانيّة التي تفاقمت جراء الصراعات الإثنية المتزايدة في البلاد خلال السنوات الماضية، وعملت السفيرة التركيّة لدى أديس أبابا، يبراق آلب، على تقديم مساعدات إنسانيّة في إقليم هرر شرقي، ووزعت المنظمات الخيريّة التركيّة، في هذه الأزمة مساعدات غذائيّة على العائلات المتضررة من الحرب في إثيوبيا؛ حيث جرى توزيع المساعدات في مدينة دهندهاما”.
تتحفظ تركيا في الظهور المباشر في أثيوبيا الدولة المسيحية ذات الأغلبيّة الأرثوذكسية؛ ما يعكس براغماتيّة سياستها واضحة؛ إذ تجاهلت ملايين المسلمين، من جماعة أورومو، ودعمت السلطة “أقلية أمهرة”، فهاجم المسلمون الاستثمارات التركية في إثيوبيا، ولاسيما بعد افتتاح مراكز ثقافيّة لتعليم اللغة التركيّة في العديد من المدن الإثيوبية، وتأسيس المدارس الدينيّة، لنشر أفكار الحزب الحاكم بين الإثيوبيين.
الطموح التركيّة يتجاوز حدود العلاقات الطبيعيّة والتعاون لتأخذ بعداً استعماريّاً استغلاليّاً والتلاعب بأمن الشعوب واستخدام كل الأدوات القذرة بما فيها حرب المياه، والسبيل لإسقاط هذا المشروع هو تضامن شعوب المنطقة أي بتكامل جبهات المقاومة، ويعوّل على الدور المصريّ لكسر شوكة أنقرة في المفصل الليبيّ.