يوم خرجَ سوريون إلى الشوارعِ مطالبين بالحريةِ، كانوا يهتفون لوحدة سوريا أرضاً وشعباً، وأنّ ثورتهم لكلّ السوريين، ولكن بالتدرّجِ بدأ الدم السوريّ يُستَحلُّ ويُهرَقُ، ولكلّ حالةٍ فتوى، حتى ارتهنت “الثورة” بكُلّها وكَلكَلِها لصالحِ سلطانِ أنقرة ترفعُ علمه وتقاتلُ نيابةً عنه كلَّ السوريين ولم يبقَ من الهويةِ السوريّةِ أثرٌ يُذكرُ وباتت أداة احتلالٍ.
شرعيّة الجيشِ القانونيّة والوطنيّة
العقيدةُ العسكريّة اصطلاحٌ يجيبُ على السؤالِ الأساسيّ لماذا تحاربُ الجيوش؟ وما المعركةُ التي يمكنُ أن تخوضَها؟ أين وضد من؟ أي تتضمن تحديدَ العدوَ والتهديداتِ الأساسيّة، وهي توازي العقيدةَ الشاملةَ لنظامِ الدولةِ.
الجيوشُ النظاميّة مستوفيةٌ الشرعيّةَ القانونيّةَ، ومهمتها حمايةُ الكيانِ السياديّ للدولةِ والمواطنين ضدَّ أيّ تهديدٍ وجوديّ، وتُحدّدُ أبعادُ المهمةِ بقانونٍ، وأما الشرعيّةُ الوطنيّةُ فتعني أن يكونَ المجتمعُ حاضنةَ الجيشِ الشعبيّةِ، وهي رهنُ أدائه مهامه الوطنيّةِ. ويُعد قرارُ الحربِ أخطرَ القرارات ويتضمن القتلَ واحتمالَ الموتِ، ويتخذه الساسة وتنفذه المؤسسة العسكريّة، ويجب أن يجيبَ على سؤالِ الضرورةِ الوطنيّةِ.
لا تفقدُ الجيوشُ شرعيتّها إن هُزِمت أمام عدوٍ خارجيّ، ولكن الأمرَ مختلفٌ إذا انهزمت لعدم الثباتِ بالميدانِ، والاختبارُ الأكثرُ حساسيّة لها عندما تؤدّي مهاماً داخلِ البلادِ وفي المدنِ، في حالاتِ الفوضى، إذ تتطلبُ عملياتٍ دقيقةً للغايةِ، ولهذا فقرارُ إدخالِ الجيش إلى المدنِ مسؤوليّةٌ جسيمةٌ، إذ لا يمكنُ ضبطُ سلوكه مهما كان تقيّده بالانضباط ويُحتملُ سوءُ تقديرِ الموقف ووقوعُ أخطاءٍ بتنفيذِ المهمة، فتصبحُ شرعيته على المحكِّ.
مع انطلاقِ الربيعِ العربيّ كانت أولى الاستهدافاتِ موجّهةً إلى عقيدةِ الجيوشِ. ففي ليبيا تمَّ تداولُ مصطلحِ “كتائب القذافيّ”، ولم يكن ذلك عابراً بل كان المقصودُ إسقاطَ الشرعيّةِ الوطنيّة، ليكونَ مختصاً بشخصِ الرئيسِ وليس الوطنِ.
قد ينقسمُ الجيشُ في حالاتِ الأزماتِ والفوضى فتتقاتلُ وحداته، أو يبقى على ارتباطه بالنظامِ القائم، وكانت حياديّة الجيش المصريّ سببَ نهايةِ حكمِ حسني مبارك، فيما كان الانقسامُ في اليمن وليبيا، وأما في سوريا فقد بقي الجيش على ولائه للنظام وانحصر الانشقاق بالأفرادِ وليس الوحداتِ، وبقدر ما يكون الجيشُ أداة تثبيتِ النظامِ القائمِ، فإنّه بنفسِ الوقتِ مصدرَ الخطرِ عليه إذ يُمكنه الانقلابُ فجأة وتغييرُ النظامِ، ولهذا قام أردوغان بعملٍ استباقيّ وغربل المؤسسةِ العسكريّةِ واحتفظ بالموالين له بحجة محاولة الانقلاب 15/7/2016.
بنادق مأجورة
لعبت أنقرة دوراً مهماً على طول مسارِ الأزمةِ السوريّةِ، ولم يكن ممكناً أن تتحكمَ بمسارِ ما سُمّي الثورةِ بالبداياتِ عندما كانتِ الحناجرُ تصدحُ بوحدةِ سوريا أرضاً وشعباً، ولهذا عملت على استدراجِ فورةِ البعضِ إلى المذهبيّةِ لتكونَ الأساسَ العقائديّ وعاملَ التحرّيضِ، فوصمت مذهباً بالفسادِ والرّدة، وأسبغت على قوميّةٍ سِمة الانفصالِ والإلحادِ، ومع توريدِ السلاحِ والغطاء السياسيّ، اُستكملت أركانُ العسكرةِ، لتتشكلَ مجاميعٌ تُطلقَ النارَ وتُحاصرُ البلداتِ والمناطقَ وتقيمُ الحواجزَ وتعتقلُ الناسَ على الهويةِ والانتماءِ القوميّ الفطريّ، ولترتفعَ لعلعةُ الرصاصِ على الشعاراتِ والهتافاتِ.
وفي سياقِ إعطاءِ شكلٍ شرعيّ لتلك البنادقِ كان التوجّه مبكراً لإنشاءِ كيانٍ موحّدٍ يجمعُ حملةِ السلاحِ، فأعلن المقدمُ حسين هرموش عن تشكيلِ لواء الضباط الأحرار في تركيا في ٩/٦/٢٠١١ ثم أعلن العقيد رياض الأسعد عن الجيشِ السوريّ الحر في ٢٩/٧/٢٠١١ وأُعلن في ٢٤/١١/٢٠١١ عن المجلسِ المؤقّتِ للجيشِ الحر. وكان كلّ ذلك خطواتٍ للإيحاءِ بوجودِ قيادةٍ موحدةٍ تقودُ حالةَ العسكرةِ، ولكن مجردَ تفتيشِ السياراتِ على حاجزين، المسافة بينهما أقل ١٠٠ م كان دليلاً للانفصالِ والتناقضِ بينها. وتوالى تشكيلُ الفصائل المسلحة وانشقاقها عن بعضها أو توحّدها في سلسلةٍ طويلةٍ لا تنتهي.
تدخلت أنقرة لجمعِ الفصائلِ تحت مسمّى “الجيش الوطنيّ” وكان الاسم مطروحاً في فترة مبكرة، وأهم المراحل للإعلان عنه كان في ٢٩/١٢/٢٠١٧ قبيل العدوانِ على عفرين وشمل فصائل مسلحة بريف حلب الشمالي ومن ثم في ٤/١٠/٢٠١٩ قبيل العدوان على شمال سوريا.
السؤال المهم كان دائماً حول عقيدةِ هذا الجيش، وهل تقوده فعلاً قيادة مركزيّة مستقلة القرار؟ سيقول كثيرون إنَّ عقيدته الأساسيّة تتمحورُ حول إسقاط النظام، وهذا ردٌّ لا يفيد كعقيدةٍ، بل يعني هدفَ الاستيلاءِ على السلطةِ، والواقعُ يناقضه، وهناك آلاف الأدلةِ على انحرافِ “الجيش الوطنيّ” عن الهدف والانتهاكاتِ التي قام بها، وهو يضمُّ في صفوفه مئاتِ العناصر متقلّبة الولاء، انتقلت من فصيلٍ لآخر فكانوا عناصر في النصرة وداعش، وكلنا يعلم الحالة العقائديّة لهما. ولا يمكنُ أن تجتمعَ الثوريّةُ والجهاديّة والارتزاق مع الوطنيّة.
ومن الغريبِ أن تدّعي مجموعةٌ مسلحةٌ تحرير قريةٍ أو منطقةٍ فيما يذوقُ الناسُ ألواناً من الخوفِ والرعبِ ويعانون من الظلمِ وفرضِ الإتاواتِ وأعمالِ السلبِ والاعتقالِ التعسفيّ وحتى القتل. بل إنَ “إسقاط النظامِ” وهدفهم المزعوم لا يمرّ من الأريافِ والأحياء السكنيّة.
المسألة الثانية أنَّ هذا “الجيش” يقاتلُ تحت العلمِ التركيّ وأسرف بدخوله المسلحِ إلى القرى والبلدات والأحياء، وأمطر المناطق السكنيّة بالقذائف، وأما القصص الواردة من المناطق التي تحتلها تركيا فلا يمكن عدُّها.
بتجاوزِ ما سبق، يبقى سؤالان مهمان أيّ عقيدةٍ يلتزم بها هذا “الجيش” ولماذا تنخرطُ فصائله بالاقتتالِ كما في عفرين والباب وجرابلس؟ هل الاقتتالُ على الأسلابِ والغنائمِ والتهريبِ يمثلُ عقيدةً عسكريّةً تُبنى عليها آمالُ الناسِ بحياةٍ أفضل؟
والسؤال الثاني ما الذي يجعلُ عناصره تنتقلُ إلى ليبيا للقتالِ؟ ولا جوابَ إلا المالِ، وهنا نفقدُ البوصلة تماماً، إذ أنّ مسلحين يقاتلون بفكرةِ الارتزاق لا يمكنُ أن يمثلوا ثورةً من أيّ نوعٍ، وبالتالي فقد جعلت أنقرة ما يُسمّى “الجيش الوطنيّ” طوابير قتلةٍ وبنادق مأجورةُ بلا عقيدةٍ، تقاتلُ حيث تُؤمر، وتقتتلُ فيما بينها وتتمرد على مشغّلها بوقفِ المالِ.
المقاومة عقيدة
الوطنيّةُ هي الاختبارُ الحاسم لحَمَلةِ السلاحِ، والقول إنّ المقاومةِ الوطنيّة تقومُ بمهمةِ الجيوشِ النظاميّة وتختلفُ عنها بالتراتبيّةِ الإداريّة صحيحٌ. ولا يمكنُ لأيّ مجموعةٍ مسلحة أن تستحقَّ توصيفَ المقاومةِ، إلا عندما تقاتلُ وفقَ عقيدةٍ وطنيّة راسخةٍ. وإذا كانتِ السيطرةُ على الأرضِ هدفَ كلِّ القوى المسلّحة ويمكنها ذلك بفضلِ فارقِ القوةِ ونوعِ السلاحِ، إلا أنّ حمايةَ الناسِ هي هدفُ المقاومةِ الأول وتلك مسألةٌ أخلاقيّةٌ بامتيازٍ، فتصبح عندئذٍ السيطرة على الأرضِ تحريراً.
جسّد داعش حالة كان القتلُ فيها عقيدة، ولبس عباءةَ الدين، وعندما احتاجت جحافله مناطق سوريّة ترفعُ راياتِها السوداءِ وتسومُ الناسَ سوءَ العذابِ وتقتلُ بكلّ الأساليبِ، كانت أنقرة الضرعَ المغذّي والحاضن لها، فندب سوريون أنفسهم لمهمةِ صدّ هجمةِ “الغرابيب السوداء” ومقارعتها، وتلك هي قصة قوات سوريا الديمقراطيّة التي اتخذت من سوريا الموحّدة شعاراً للعملِ وراية لها، وضمّت سوريين من كلِّ المكوناتِ، وواصلت مقاومةَ الإرهابِ حتى كانت معركة الباغوز فأنهت وجوده جغرافيّاً، وكانت حفاوة استقبال الأهالي لهذه القوات إجابةً لسؤال الوطنيّة، فيما فرَّ بعض عناصر الإرهابِ إلى تركيا لائذين فتُعادُ صياغتهم مجدداً بضمّهم إلى من سُمّوا “الجيش الوطنيّ” الذي أُوجد ليكونَ أداةَ الاحتلالِ.
العقيدةُ الوطنيّة لا تُجسّدُ إلا عندما تقفُ القوةُ المسلحةُ على مسافةٍ واحدةٍ من كلِّ المكوناتِ الوطنيّةِ دون تفرقةٍ فلا تنغلقُ في توجّه محددٍ سياسيّ أو قوميّ أو مذهبيّ، وتعوّلُ على حاضنتها الشعبيّة وليس على أطرافٍ خارجيّةٍ، مسخرة بندقيتها لحمايةِ الأهالي وليس لتخويفهم، وتكونَ أقربَ للسلمِ منها للحربِ.