لم يكن وجود داعش أو ولادتها بمحض الصدفة أو معجزة فاقت المخيلة في سعة آفاقها، بل كان نتيجة علاقة خاطئة ومولوداً من سفاح، وجهاد نكاح كما أسمته وابتدعته هي فيما تلا ولادتها، هذا الكيان الأسود الذي كان كغيمة سوداء تمددت بسرعة في العديد من مناطق سوريا والعراق، ولم تمطر إلا خراباً ودماراً وأوجاعاً، وكان لها في الوجهة الأخرى من وقف في وجهها وحدَّ من طغيانها ومن ثم بات القضاء عليها قاب قوسين أو أدنى.
في كتاب “مغامرة صحفي مصري في دولة داعش” الذي أعده وكتبه وحققه الصحفي والكاتب المصري سيد عبدالفتاح، حقائق ووثائق ومعلومات قيّمة تفوق الوصف من حيث قيمتها المادية والمعنوية، والكتاب جاء في 222صفحة من القطع الوسط، وصدرت الطبعة الأولى منه في مصر عن مركز القاهرة للدراسات الكردية عام 2016م. وصدرت الطبعة الثانية في شمال سوريا عن دار شلير للنشر بقامشلو2018م.
الكتاب وكما قدم له الكاتب السيد عبدالفتاح ليس كتاباً يعتمد على البحث المكتبي في الكتب والمواقع وجمع من المصادر؛ بل هو كتاب قيم جاء نتيجة تحقيق ميداني وجهد ومغامرة شخصية في الكثير من المناطق التي استولت عليها داعش في شمال وشرق سوريا والعراق، يقول الكاتب السيد عبدالفتاح:
“هو كتاب مصنوع في جبهات القتال ومن ألسنة المشاركين في الحدث، سواء الضحايا أو المجرمين، كتاب مفعمٌ بالحياة والحركة والصدق في النقل والعرض لأنه طبيعي، سعى جاهداً لنقل الصورة الكاملة والحقيقية من أرض الواقع دون رتوش أو تجميل أو توجيه”.
في الكتاب تفاصيل جمَّة للكثير مما يتعلق بأساليب وطرق القتال لدى داعش، وعلاقاته وتكتيكاته العسكرية التي كان الكاتب قريباً جداً منهم في الكثير من الأوقات، كذلك يبرز حالته وما كان يدور في خلده وما قام به من مغامرات ليصل إلى مبتغاه في رصد ومراقبة داعش عن قرب وفي جبهات القتال الأمامية، وما رآه من خلال وجوده مع وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة وقوات سوريا الديمقراطية في روج آفا وشمال شرق سوريا. كما يبرز جوانب كثيرة من استعدادات القوات الكردية “البيشمركة” في باشور وباقي مناطق العراق لقتال داعش.
المغامرة الكبيرة؛ هكذا يصف الكاتب رحلته في سبيل الوصول إلى الحقيقة بل إن البعض سماها بالرحلة المجنونة ورآه مجنوناً فيما سعى إليه، ورغم إدراكه الخطر المحيق به والمخاطرة التي قاربت التهلكة، لكنه أصرَّ على القيام بما عزم عليه، بعد أن أعد وخطط لها ملياً، ويقول السيد عن ذلك في الكتاب:
“طوال هذه الفترة لم تفارقني مقاطع الفيديو الخاصة بذبح الصحفيين الأجانب على يد داعش، وكثيراً ما تصورت نفسي بالبدلة الحمراء وخلفي جزار داعش المقنع يلقي كلماته وأنا شاخص ببصري إلى السماء أتضرع إليها…وكم رأيت رأسي مقطوع وموضوع بالمقلوب على جسدي”.
بدايات المغامرة الصحفية في سبيل الحقيقة:
في فصول الكتاب يبدأ الكاتب برحلته الانتحارية ويسرد قصته منذ بداية وصوله إلى مناطق جلولاء والسعدية في محافظة ديالا، وكيف استطاع أن يصل إلى غرفة العمليات التي كانت تدير القتال ضد داعش، وما فعله حتى تمكن من الوصول إلى الخطوط الأولى للجبهة في ذلك الحين، ويورد كثيراً من تفاصيل الإعداد لتلك العمليات والعديد من دقائق التحركات والعمليات العسكرية وهو الذي كان يعيشها لحظة بلحظة.
لا يقتصر سيد عبدالفتاح في كتابه على وقائع يوميات القتال ضد داعش وتحرير المناطق منها ودحرها في العديد منها بل يورد مجريات الكثير من لقاءاته مع زعماء وشخصيات كردية سياسية وعسكرية وثقافية ومنهم ملا بختيار مسؤول هيئة التنسيق في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني آنذاك، القياديان البارزان في حركة التحرر الكردستانية صبري أوك والرفيقة فاطمة، ولقائه بالقيادي في حركة المجتمع الديمقراطي آنذاك آلدار خليل، ويسوق الكثير من آرائهم، وانطباعاته عن تلك اللقاءات التي كانت غاية في الأهمية بالنسبة إليه.
المرأة الكردية إيقونة الحرية ومثال الشجاعة:
في جانب آخر وكما كانت المرأة الكردية مثار إعجاب وتقدير في أنحاء العالم كافة، يُفرد السيد عبدالفتاح جانباً من كتابه حول المقاتلات في وحدات حماية المرأة “حوريات كردستان” كما يسميهن، ويقول في فصل خص به المرأة الكردية بعنوان” حوريات كردستان يسقطن أسطورة جنود الخليفة البغدادي” ومما جاء في ذلك:
“ظاهرة جديدة استطاعت أن تنال الاحترام والتقدير من العالم، تجربة غيّرت الصورة الراسخة عن المرأة الشرقية، التي في نفس الوقت أساءت نظرة داعش للمرأة وما انتشر عن جهاد النكاح، والمجاهدات الغربيات في صفوف التنظيم الإرهابي اللاتي ليس لهن إلا دور واحد وهو إشباع رغبات المقاتلين وتفريغ شهوتهم الجنسية ليتفرغوا للجهاد”.
ويتحدث السيد عن العديد من البطلات في صفوف وحدات حماية المرأة والأساطير التي سطرنّها، وكيف أصبحن رموزاً وإيقونات للمرأة الحرة في كل مكان، من أمثال الشهيدات الخالدات “ريحان و ونالين وآرين وبيريفان وغيرهن”.
داعش وتركيا…وجه واحد للإرهاب:
وفي الفصول الأخيرة من الكتاب يكشف الكاتب عن التعاون الوثيق والتحالف السري والعلني تارة أخرى بين داعش وتركيا، وكيف قامت تركيا وتقوم بتجنيد المرتزقة، وتسهيل دخولهم إلى الأراضي السورية التي هي بذات الوقت مناطق روج آفا ذات الغالبية الكردية، كانت التسهيلات عبر تأشيرات السفر والإقامة والتموين والتجارة، وفي تقديم العلاج لجرحى داعش، واعترافات أسرى داعش الذين سقطوا بيد وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية كانت خير دليل وفضحت الكثير عن تلك العلاقة المشينة، ومما يورده الكاتب من اعترافات أحد مرتزقة داعش الأسرى:
“عدد كبير من المجاهدين الأتراك سبق لهم المشاركة في عمليات عسكرية في العراق، وجاؤوا إلى جبهات القتال في سوريا لمشاركتنا في المعارك التي يخوضها التنظيم ضد القوات الكردية التي تسيطر على مناطق كثيرة على الحدود مع تركيا إنهم يتميزون بالروح القتالية العالية، وإن الكرد- حسب وصفهم- كفرة ومرتدين عن الاسلام”.
ويأتي الكاتب على ذكر العشرات بل والمئات من الوثائق التي وقعت بيد القوات الكردية من خلال الأسرى ومن خلال تحرير المناطق التي سيطرت عليها داعش والتي تظهر التعاون الوثيق والعميق بين مرتزقة داعش وتركيا.
وثائق وشهادات وأيام عصيبة نقرأها ونعيشها من خلال الكتاب، والإحساس المرهف الصادق منه، من خلال نقل صورة حية عاشها وتابعها، يضفي متعة نادرة في قراءة الكتاب.
والسيد عبدالفتاح من مواليد 12 شباط 1973م. حاصل على ليسانس الحقوق جامعة القاهرة 1996. يعمل بالصحافة منذ عام 1994. عضو نقابة الصحفيين المصرية، حائز على جائزة النقابة عام 2015 عن مجموعة التقارير الخارجية والتحقيقات والتغطية الميدانية للحرب على داعش في سوريا والعراق، ومن أبرز كتبه: جلال الطلباني، رؤية مصرية ومغامرة صحفي مصري في دولة داعش وثورة الشباب ثورة التحرير، ومجموعة الموضوعات التي كتبها لإبراز الدور الكردي في التصدي لخطر داعش وهزيمته سواء في العراق أو سوريا، مؤسس ورئيس مركز الدراسات الكردية بالقاهرة.