رغم انتشار التكنولوجيا الرقمية، وغزو أدوات التواصل الحديثة للعالم أجمع، وتنافس الدول في مضاميره المختلفة، التي كان آخرها الذكاء الصناعي التوليدي، إلا إن مجتمعاتنا لا زالت ترزح تحت سطوة مجموعة من الأوهام، التي لا تمت للمنطق السليم بصلة، بل هي نتاج موروث تراكمي أفضى بإنسان مكتمل العقل للإيمان بأشياء يصنعها بنفسه.
هذه الأوهام انتشرت في مجموعات كبيرة من الناس، وتحولت مع مرور الوقت إلى مقدسات ومسلمات، حتى أصبحت هذه المجموعات أسيرة لهذا المعتقد، أو ذاك.
وفي صحيفتنا “روناهي”، سنعكف إلى استعراض جانب من هذه الأوهام، من خلال البحث عن جذورها وما مثلته عبر الزمن من إيحاءات متدرجة حتى وصلت اليوم إلى أشكالها القدسية، التي ارتهنت لها عقول عديدة، وسيكون هذا الاستعراض عبر سلسلة سنطلق عليها اسم “صناعة الوهم”.
وأول هذه الأوهام المنتشرة في مجتمعاتنا وأبرزها تتمثل بمجموعة من الأدوات التي يحملها الإنسان، أو يضعها في مكان ما، وتسمى في الموروث العربي بـ “التمائم”، معتقداً أنها تجلب خيراً أو تدفع شراً، وأبرزها “الخرزة الزرقاء”.
الاعتقاد بالمنفعة
وترتبط “الخرزة الزرقاء”، ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بالطاقات الشريرة المنبعثة من العين الحاسدة، وتُعَدّ العديد من الشعوب الشرقية متبنية هذا الموروث الثقافي القديم، إذ يرى المؤمنون بها أن العين الزرقاء تجلب الحظ وتحمي من العين الشريرة.
وتلازم الخرزة الزرقاء العديد من البيوت والمحال التجارية وحتى البسطات المتواضعة، ناهيك عن وسائط النقل العامة والخاصة، كما تسور العديد من الأيدي وتعقد في الأعناق ولفائف الرضع في مجتمعاتنا.
فشكلها الزجاجي اللامع ولونها الأزرق المحبب، وتصميمها على شكل عين هي أحد الموروثات الثقافية، التي يعتز بها بعض الناس ويحرصون على اقتنائها، وهذه القطعة مصنوعة يدوياً من عجينة الزجاج.
الجذور التاريخية
وترتبط “الخرزة الزرقاء”، ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بالطاقات الشريرة المنبعثة من العين الحاسدة، ففي عدد من الحضارات، كـ “المصرية، والبابلية والسومرية”، كان يُعتقد أن الشر داخل الإنسان ينعكس طاقةً تخرج من عينيه ليؤذي بها غيره، لذا، حاول الناس التعبير عن هذا الخوف باستخدام التمائم والتعويذات، وكانت العين هي الحامي الأكثر شيوعاً ضد قوى الشر الغامضة عند أكثرية الحضارات.
وتُعَدّ هذه التعويذة قديمة جداً، فقد استخدمها الفينيقيون والآشوريون والرومان، ووُجدت في أنحاء الشرق الأوسط، فيمكن رؤيتها في أرمينيا وإيران واليونان، كما ورد ذكرها في الحكايات الأيرلندية القديمة، وحافظ هذا الرمز على مكانته في الخيال البشري آلافَ السنين.
ووفقاً للتاريخ المصري القديم، ترمز خرزة العين الشريرة إلى عين حورس، “الإله الذي يتخذ شكل صقر”، وأصبح حورس ملك الحياة بعد انتصاره على عدوه سيث، وعُدَّت عين حورس قادرة على هزيمة النظرة الشريرة، لذا، رسم عين حورس على المقابر والمومياوات من أجل جلب الحظ السعيد إلى أرواح الموتى في رحلتهم إلى الحياة الآخرة، كما رسمها الإغريق القدماء على قوس كل سفينة من سفنهم من أجل حمايتها من غضب بوسيدون، إله البحر والعواصف.
نماذج معاصرة
وفي الصدد؛ التقت صحيفتنا “روناهي”، بمواطنين من مدينة الحسكة بإقليم شمال وشرق سوريا، حيث حرصنا على التنوع الجنسوي، والتفاوت في الأعمار، لنستقصي آثار الخرزة الزرقاء في المخيلة الجمعية بتبدل الأجيال.
وكانت إحدى الشخصيات التي التقينا معها، المواطنة “أميرة الخلف“، امرأة من الوسط النسائي، الذي تكثر فيه الآفات المجتمعية، نتيجة التجهيل الذي مورس على المرأة طوال عقود مضت، حيث تحدثت أميرة عن إيمان العجائز من جداتها، ذاك الإيمان الكبير بتأثير العين والحسد على أقدار الناس، فيما أشارت إلى إن النساء فيما مضى كنَّ أسيرات هذه التصورات المغلوطة.
ونوهت أميرة، إلى أن هذا الوسط يستخدم “الخرز” باعتقاد من نساء هذا الوسط أنه يجلب الخير ويدفع الشر، فيما لم يكن الأمر مقتصراً على الخرزة الزرقاء فقط، فهناك أنواع عديدة كانت تؤمن المرأة بأنها تنفع وتضر، ومنها الخرز “الجالب للرزق، والمقرب من الزوج، والمتعلق بالإنجاب” وغيرها الكثير من الاعتقادات البعيدة عن المنطق.
أما عن الخرزة الزرقاء على وجه الخصوص، فأشارت أميرة، أنها في العديد من الأسر ترافق الطفل منذ ولادته: “فما أن تضع المرأة مولودها، حتى تتقاطر النساء مهنئات، مصطحبات معهن الهدايا، وأبرز هذه الهدايا تلك القطعة الصغيرة من الذهب التي يتم صوغها على شكل عين تتوسطها خرزة زرقاء، وتعلق هذه القطعة على ملابس الصغير، سواء في صدره، أو على قبعته”.
وأردفت، أن الأمر يرافق هذا الصغير في كل طارئ صحي، حيث تجري في بعض الأحيان عملية “صب الرصاص” التي تتحدث عن العين والحسد، وتشكل وفق معتقد كبيرات السن درع حماية لهذا الطفل من الأرواح الشريرة.
أما الشخصية الثانية التي التقينا معها، كان الشاب “حسين العبار“، وهو أيضاً من مدينة الحسكة، والذي أدرك في صغره هذا الارتباط الوثيق بـ “الخرزة الزرقاء”؛ مشيراً، إلى إن الأمر تراجع في السنوات الأخيرة نتيجة الانتشار المعرفي، الذي حدا بالكثير من الناس للتخلي عن المعتقدات المعارضة للعقل والمنطق.
إلا إن العبار أكد، أن العديد من الناس لازالوا يؤمنون “بالقوة الخارقة للخرزة الزرقاء في طرد الشر”، منوهاً، إلى انتشار هذه الخرزة بأشكالها المتعددة في مداخل العديد من المنازل وواجهات المحال التجارية في الحسكة.
وأشار الشاب “حسين العبار” في ختام حديثه، إلى أن الخرزة الزرقاء ليست الأداة الوحيدة الدافعة للعين الحاسدة وفق المعتقدات الشعبية، فبعض الأهالي يلجأ إلى استخدام “الأحذية “لا سيما صغيرة الحجم، عبر تعليقها على ممتلكاتها من مركبات وحقول ومنازل، في محاولة منهم لصد هذه الطاقة الشريرة الخفية، وفق معتقدهم.
فمن الواجب على مجتمعاتنا التخلص من هذه المعتقدات البالية، التي لا تمت للعقل السليم والمنطق بأي صلة، وذلك عبر نشر الوعي على كافة المستويات، من خلال التعليم والإعلام، وهما الأداتان الأمضى، في تغيير هكذا تصورات مشوهة، منتشرة في المجتمع.