روناهي/ عين عيسى ـ “الحمد لله… بُنيّ لا تسألني عن أهلي وسكني واسمي، أنا من هنا من هذه الأرض أعيش عليها، وأتعيش منها، ولست بحاجة إلى أحد، مررنا بأيام صعبة للغايَّة، واستطعنا اجتيازها، ولكن كله يهون على فقد الأبناء والأحبة”.
ذاكرتها تختزل الكثير من الأحداث بما فيها من حروب وحل وترحال، في كل مرة كانت تلفت الانتباه، فهي تتردد كل فترة إلى الناحيَّة لتأمين بعض الحاجيات ثم تختفي، تَشاركنا التساؤلات والاستفسارات عن حالها مع عدد من الأصدقاء في كثير من المرات دون أن نجد أي تأويل ثم يبدأ كل هذا الاهتمام بالاختفاء رويداً رويداً بعد أن ننسى الأمر، وتبدأ اللامبالاة تُسيطر علينا بعد كل الملمات والأزمات وزاد عليها الوباء الذي يعصف بنا وبالعالم أجمع.
يقولون إذا بدأت المصائب ونوائب الدهر تصيب الإنسان يصبح شخصاً لا مبالي وغير آبه لأحد، المهم في الموضوع أنني لم أعيرها ذاك الاهتمام بدت في نظري مجرد “مسنة مسكينة”، ربما كان لها أحد في عين عيسى أو في القرى القريبة منها…تساءلنا ملياً؟!، أو أنَّها امرأة معمرة كغيرها ممن شابهها في عمرها..؟!، وتعودنا على شخصيات مشابهة لها تماماً كما كانت النساء في جيلهنَّ، وما هنَّ عليه من صبر وجلدّ على ضنّك العيش، وقوة التدبيّر المنزليَّة، والعمل الشاق الذي يَقمن بهِ بسعادةٍ ورضا لامتناهي.
شهدت جرائم العثمانيين القدامى والجدد..!
المرأة المسنة رفضت التعريف عن نفسها وعن قريتها التي تقطنها، كل ما حاولت معرفته كان مثيراً للاهتمام بقدر رغبتي التي لم تعادلها رغبة في معرفة تفاصيّل مُشوقة عن حياتها، وشهادتها على العصر الذي عاشته، والبارز بشخصيتها هو رفضها لأي مساعدة مهما كان نوعها.
بدأت بسؤالها عن وضعها؛ أين تسكن، لماذا هي في هذا المكان؟؟؟، وانهالت أسئلتي عليها بدهشة بالغة، ولكن كان جوابها يحمل الكثير من العزة والأنفة.
قالت المسنة التي حدبت السنين والعقود الطويلة ظهرها: “الحمد لله.. بُنيّ لا تسألني عن أهلي وسكني واسمي، أنا من هنا من هذه الأرض أعيش عليها، وأتعيش منها، ولست بحاجة إلى أحد، مررنا بأيام صعبة للغايَّة، واستطعنا اجتيازها، ولكن كله يهون على فقد الأبناء والأحبة”.
وأردفت: “ثلاثة من أبنائي قضوا مع عدد من أفراد أسرهم شهداء في غارات طيران الاحتلال التركي على قريتنا في العدوان الأخير، وأنا الآن أقوم بإعالة ما تبقى من أحفادي الاثني عشر”.
المحتلون السبب الرئيسي في إثارة الفتن بين الشعوب
وبسؤالي عن أعمارهم وكيف قضى أبنائها، قالت المرأة المسنة بعد أن انهمرت دموعها بأسى: “رفضنا الخروج من قريتنا، وكان جزاء ذلك هو تدمير بيوت أبنائي فوق رؤوسهم، بعد أن سلمت مع أولاد أبنائي الذين ذكرناهم آنفاً، بعد ذلك عمدوا إلى سرقة كل ما نملك من ماشية ومحتويات البيوت”.
تتدعي المرأة المسنة بأن عمرها يزيد عن مئة وعشرين عاماً، لذلك تقول بأنها عاصرت حقبة (الاحتلال العثماني) لسوريا، وتصف معيشتهم إبان عهدهم بالجحيم، وأن ذويها كانوا يخبؤون شنابل (شوال) القمح والشعير مخافة سرقتها من قبل العسكر العثماني (جنود الاحتلال العثماني)، وحتى الماشية “التي كانت تعتبر كل ما يملكون في تلك الفترة” لم تسلم من تعدياتهم وسرقاتهم لها.
وتطيل المرأة المسنة في سرد الأحداث والأشعار فهي تنتمي إلى قبيلة (جيس) العربية، بحسب قولها، فتتذكر السنوات التي كانت قبيلتهم بمراحل الحل والترحال حول (نبع عين عيسى)، وتتذكر جيداً النزاع القبلي الذي كان سائداً في تلك الفترة والعمل على ترسيخه وبث الفتن من قبل العثمانيين، وتحالفهم مع قبائل ضد قبائل أخرى (كحروب الفدعان وشمر وجيس) وغيرهم من القبائل.
تَأبى المساعدة من أي جهة.. وتُكافح بكل قوة
وبعيداً عن سرد الحوادث والمآثر التي تحتفظ بها المرأة المسنة بجعبتها، وبسؤالها عن عدم لجوئها إلى جهة معينة أو منظمة إنسانية أو للمخيم الذي أنشأته الإدارة الذاتية لإيواء مهجري كري سبي/ تل أبيض للتكفل بإعالة أسرتها وأحفادها، قالت: “لم أتعود على سُكنى المُخيمات، ولست بحاجة إلى أحد ليعيلني أو يَصرف عليَّ، تعودت على أن أكل مما أكسب، والآن أنا أقولها بفخر، أذهب إلى منطقة الكسرات في ريف الرقة الجنوبي للعمل في الخضروات وجلب ما تيسر منها، أو ثمن العمل اليومي (اليومية) لجلب الحاجات الأساسية”.
وتُضيف بإصرار “سأبقى على هذا النحو في إعالة أحفادي وأسرتي حتى ألفظ أنفاسي الأخيرة، لم نَتعود على مد يدنا لأحد (تُكرر هذه العبارة بشكلٍ دائم)”.
وتُعيد ذكريات ما فتئت تراودها بأنًّهم “هي وعائلتها” عندما كانوا “رُحَّل” مع أغنامهم وبيتهم المتنقل “بيت الشعر”، تكيَّفوا مع كافة الظروف، وكانت النسوة تُؤمن مُتطلبات البيت من “خبز ـ وحطب ـ وماء” رغم “الظروف الصعبة” بكل يُسرٍ وسهولةٍ، لذلك هذه الظُروف مقارنةً بما شاقتهُ وشاهدتهُ هي ظروف أقل صعوبة مما كانت عليّه في تلك الفترة، وستستطيع مواجهتها بكلِ بساطة، بحسب قولها.