No Result
View All Result
المشاهدات 0
جمعة الحيدر –
تردد قبل أن يخرج من كهفه، ثم حسم أمره، لكن لم يحدد لنفسه وجهة ما، تاركاً لقدميه حرية الاختيار.
ها هو الآن في مركز المدينة، الشوارع متخمة باللافتات، عيناه لا تكادان تستقران على لافتة حتى تثبان إلى أخرى، دون أن تقرأ شيئاً، فالألوان تمارس أبهارها، ولا تترك له فرصته للتأمل، بل تجذبه بقوة غير مرئية لمتابعة طريقه على غير هدى. أحس وسط الأمواج البشريّة أن جسمه يتحرر من الجاذبيّة، وأن نشوة دافئة تغمره من الأخمص إلى المرفق، فراح يتابع الأطفال وهم يتراكضون ويرتطمون عن عمد بأرجل المارة، ثم ينفرد في ضحكات صاخبة، الطفل يستيقظ فيه، ويطل عبر ثلاثين سنة خلت، يراه يتسلق سطوح أسواق المدينة القديمة عبر الشبابيك الحديديّة التي تنفذ منها أشعة الشمس الشقراء تبحث عن صيد، لا تنتظر طويلاً.
ها هو عقال يستقر بثقة فــوق رأس من الرؤوس المتعبة، وفجأة يبدأ العقال رحلة الصعود إلى الأعلى، الذهولُ يعقد لسان صاحبه، ثم ينطلق صراخه مشفوعاً بكلمات الاستنكار والاستهجان، الصرخات تتجاوب مع قهقهات المشاغب الصغير المتربع في السطوح، أصوات الموسيقا المنبعثة من المحلات تعيده إلى الحاضر من جديد، فيغدو مسكوناً بالنغم.
خطرت له، جاءته صورتها اقتحاماً جزيئاً في الموقف النشوان، إنها فاطمة أخت صديقه فاروق، لقد عرفها من سنين، كان حبها ينمو في قلبه مثل شجرة تسقيها الأحلام، وفي كل مرة يلقاها يخامره إحساس إنها أكبر منه رغم شهادة ميلادها التي تنطق بغير ذلك.
ويوم طلب منه فاروق زيارته في منـزلهم، دُهش بعقلها، يسلب منه ثقة المتمكن التي تساور أستاذاً حيال تلميذ. أثارت صورتها رغبة شديدة في لقائها، ولكن كيف؟ (الشام ليست بعيدة عن عاشقها) همهم صوته الداخلي، فاستجابت قدماه لهذا النداء الخفي، وسرعان ما راحت شوارع المدينة تختفي وراءه، والحارات القديمة شرعت تفتح ذراعيّها لاحتضان العائد من زخم الأضواء.
لم تكن هذه الحواري جديدة بالنسبة إليه، فلطالما أكلت حجارتها من قدميه العاريتين، وشهدته دروبها العتيقة غادياً رائحاً، كانت الألفة بينهما تتجدد وتنعقد صداقة بين الإنسان والمكان، يتأنس فيها الجماد في دورة الزمان، بَدت له الحارات على خلوها في مثل هذه الساعة من الليل – عامرة بالناس والحياة – ورأى نفســه يتأبط ذراع والده الضرير يقوده إلى دكانه في سوق العطّارين، تجّار السوق يسلّمون على الشيخ ويتمتمون بالدعاء له.
وبالرغم مما في أدعيتهم من شحنات الاشفاق والترحم فإنها كانت تنكأ جروحاً عميقة في نفس الضرير، وتذكّره بانطفاء اسمه بين التّجار، وفي السوق الذي كان يعترف به قبل “عماه” شيخاً للكار، وكثيراً ما دفع الشيخ دليله الصغير ليلف به مسافات طويلة تجنبه المرور بالسوق، وسماع عبارات الترحم القاتلة، فربما كان فيها من القسوة أكثر مما في عماه.
حين تعرّف إلى فاطمة حدّثها عن الشيخ، كانت تصغي إلى حديثه عنه بلهفة ممزوجة بالإعجاب، وشيئاً فشيئاً غدا الشيخ جزءاً من حياتها، ونشأت بين الحي والميّت علاقة أكثر عمقاً من العلاقات بين الأحياء، سيل من الذكريات يبعث في حناياه أضواء عجزت أضواء المدينة أن تثيرها فيه، والحمّامات والأسواق القديمة تبسط له أجنحة من شوق وخيال، فإذا الزمن دوائر تتواصل، الماضي يجد حضوره في الراهن.
خطواته تقترب من أحد الأماكن، من خلف بابه الخشبي شق نباح كلب مسعور ظلمة الليل، تسمّر في مكانه للحظة، واستولى عليه فزع رهيب في ذكرى سوداء قذف بها المخ فجأة في وقت تستجيب فيه النفس القلقة لأدنى المؤثرات.
الزمان: مساء يوم من أيام الشتاء الحزينة، المكان: الدار الكبيرة في الحارة القديمة، المشهد: الوالد الشيخ يسامر أولاده.
قال الشيخ: كان الطغاة يا أولادي يتخذون من هذه الأماكن معتقلات للثوار، يمارسون فيها أبشع أنواع التعذيب، وكان من أساليبهم الوحشيّة، كلب مسعور يطلقونه على من ييأسوا من حمله على الاعتراف، فلا يدعه إلاّ جثة ممزقة، وفي يوم من الأيام أطلقوه على فتى لم يتجاوز العشرين، حبس السجناء أنفاسهم وهم يتوقعون أن هناك مجزرة للحم بشري.
لم يكن حدسهم خاطئاً سوى أن تعديلاً طفيفاً طرأ على المشهد المألوف.
ففي اللحظة التي وثب فيها الكلب على فريسته، كان الفتى بأسرع من اللمح يمسك فكّيه بقبضة فولاذية، ثم يشقها بلقمة واحدة، وانبعث صوت هائل من الكلب القتيل زلزل المكان، لقد خُرق قانون اللعبة.
فصدرت الأوامر بإعادة الاحترام للقانون، تجهزت في الحال فرقة الإعدام، واصطفت قبالة الفتى الذي شد وثاقه إلى عمود. الفتى يرفض أن تعصب عيناه، ويتجه ببصره إلى السماء كأنه يستشرق مقعد الصدق عند المليك المقتدر، وما هي إلا لحظات حتى انطلق إيعاز عصبي، ثم سُمعت زخة من الرصاص، وانتهى المشهد.
علّق بعد أن أنهى حكايته: في ذلك اليوم سجّل التاريخ صفحة جديدة في كتاب حضارتهم وديانتهم السوداء.
أصبح قريباً من دار فاطمة، الدار تتكئ على جدار مسجد قديم، نظر إلى المئذنة، كان أخو فاطمة يعشق هذه المئذنة، وكثيراً ما صعد إليها، في صعوده المتواصل تعلم أشياءً كثيرة لم يفصح عنها، إلاّ استشهاده المفاجئ في إحدى العمليّات الفدائية، ليلة التعزية لم يجرؤ النظر في عينيها، كان فيهما شعاع غريب ذكّره بذاك الذي كان يراه في عيني الشيخ كلما دخل عليه الكهف. الشعاع في عيني فاطمة والشيخ من جوهر واحد، إنه يختزن كلاماً كثيراً، ورفضاّ صامتاً للحالة السلبيّة التي يحياها ساكن الكهف.
وقف أمام الدار هَمّ أن يطرق الباب، خانته كفه، فانفلت راجعاً تشده جاذبيّة لا تقاوم نحو كهفه المنتظر. في الطريق كانت حارات المدينة القديمة تفر مذعورة منه، وكلما حاول أن يمسك بها وقفت يده على الفراغ والظلمة، أخيراً وصل إلى بيته آوى إلى كهفه، ثمة برودة وسكون يخيمان على المكان، حاول جاهداً أن ينام لكن دون جدوى.
شعر أن حيطان الكهف تتقدم نحوه، إنها توشك أن تطبق عليه، فجأة تنبثق صورة الشيخ وتمتد يد فاطمة فتنتزعه من موت محتم، هَبّ مذعوراً وفي عزم وتصميم غادر الكهف، قدماه تسيران بوعي وثبات في شوارع المدينة، التي تسطع فيها الآن شمس النهار الورديّة، أمام مبنى متواضع تتوقفان.
على واجهة المبنى عُلّقت لافتة كُتب عليها (مكتب الدفاع الذاتي) يندفع إلى الداخل، تشبعه نظرات الرضا من أعين يعرفها جيداً لقد تحرر أخيراً من الكهف وخرج إلى الحياة.
No Result
View All Result