اتخذت الحرب على شمال وشرق سوريا منحى آخر لكنه ليس بجديد، ولهذا المنحى أسماء عديدة منها الحرب “الباردة والخاصة والنفسية والأعصاب والقذرة والناعمة” وغيرها من المصطلحات والتي تعتمد على أساليب غير مباشرة للصراع من خلال محاربة النفوذ.
يقول الأديب والمفكر اللبناني شكيب أرسلان: “إذا أردت أن تقتـل إنساناً، فلا تطلـق عليه رصاصة، بـل أطلق عليه إشاعة”؛ من هنا يتبين لنا خطر الحرب الخاصة التي تعتمد على الإشاعة والحرب النفسية، حيث لا تبدأ هذه الحرب النفسية أو الإشاعة إلا بعد أن يتم تهيئة الأجواء لها سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا وغيرها من الجوانب، كما يحدث الآن في شمال وشرق سوريا.
وكون الشائعة يجب أن تنطلق من واقع المجتمع الذي مخطط لها أن تنتشر فيه، وتأخذ حاجات الأفراد بعين الاعتبار، عملت القوى التي رسمت كل ذلك كما قلنا على تهيئة الظروف لها. مثلاً، هناك مسألة انقطاع المياه، قامت الدولة التركية بقطعها عن الحسكة بعد احتلال منطقة علوك في ريف سري كانيه/ رأس العين، ومن ثم بدأت بالترويج بأن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لها يد في ذلك. الذي بدأ بترويج هذه الإشاعة يعلم بأنها ضعيفة، ولكنه لا ضرر إذا ما صدقها عدد ما من أبناء المجتمع.
تتسم الشائعة أو الدعاية المغرضة بطابع الغموض، كونها لا تنتسب إلى مصدر محدد؛ لأن الغموض يولّد الشك، وهذا مطلوب لنجاح مقاصدها، والشائعة تُنسب من خبر لا أساس له من الصحة، أو دبلجة خبر فيه شيء من الصحة، وتكون دائمًا موجزة لتسهيل نشرها.
يقدم مروّجي الشائعات، الشائعة بصورة برّاقة، فلا تخرج إلا بعد حبكة وصياغة واختيار جيّد للكلمات والزمن لتفرض نفسها بقوة على الرأي العام.
الحرب النفسية هي حرب معنوية بالأساس واتفق الخبر بأنها شكل من أشكال الصراع الذي يهدف إلى التأثير على الخصم وإضعاف معنوياته وتوجيه فكره وعقيدته وآرائه وإحلال أفكار أخرى مكانها تكون في خدمة الطرف الذي يشن الحرب النفسية.
هناك أمثلة عديدة في شمال وشرق سوريا، مثلاً انقطاع الكهرباء أيضاً، هذه القوى هي من تمنع وصول المعدات الكهربائية إلى المنطقة لاستبدال وصيانة المعدات القديمة، وهي من تروج بأن الإدارة الذاتية غير عادلة في توزيع الكهرباء أو فاشلة في إدارة هذا الملف المهم بالنسبة لعموم أبناء المجتمع.
كما هو الحال بالنسبة إلى الأدوية، حيث تمنع دخولها إلى شمال وشرق سوريا، وتروج بأن الإدارة تقوم بتهربيها وبيعها. وكما قلنا إن هناك العديد من الجوانب التي حاولت هذه القوى استغلالها كالخدمات والتعليم وغيرها.
وقد نجحت بعض الدول في أغلب الأحيان بتحقيق أهدافها بدون النزول إلى الأرض أو تعريض جنودها للخطر، ولكن في بعض الأوقات الأخرى تكون الحرب النفسية مقدمة للحرب العسكرية، فيتم إطلاق الترسانة الإعلامية، والعمل في الخفاء، لتعبيد الطريق للقوات المهاجمة بعد ذلك، لكن هناك هدف آخر، وهو يكون بعد الفشل في تحقيق نصر عسكري أو عدم توفر الأجواء السياسية أو العسكرية لشن هجوم، فيتم من خلالها إشغال الخصم عن التطور الداخلي والمؤسساتي وضرب الاستقرار.
هذا يحدث في شمال وشرق سوريا، فبعد أن هزمت قوات سوريا الديمقراطية الإرهاب المتمثل بداعش كان من المفترض توجيه الاهتمام إلى الجانب الداخلي من خلال بناء البنية التحتية وإعادة تأهيل المؤسسات المدنية، إلا أن القوى أطلقت هذه الحرب الخاصة، حيث يقول الجنرال الصيني والخبير العسكري والفيلسوف سون تزو: “من الأفضل مهاجمة تفكير العدو، بدلًا من البدء بشن الهجوم على مدنه المحصّنة”.
الآن تشتد هذه الحرب على شمال وشرق سوريا، وتتجه تارة لمحاولة إحداث اقتتال بين كيانات سياسية، واقتتال بين القوميات تارة أخرى، حيث سعت هذه القوى إلى إثارة الخلافات الكردية ـ الكردية ولم تترك وسيلة إلا وقامت بها، حتى أنها قامت بعمليات اغتيال، ولعبت على غضب البعض من مقتل “مشعل تمو” وحاولت اتهام حزب الاتحاد الديمقراطي، كما تم افتعال حادثة اغتيال عامودا واستغلتها فيما بعد.
هذه المرة، كانت المحاولة خطيرة، وهي إحداث اقتتال كردي ـ عربي، من خلال اغتيال وجهاء عشائر عربية واتهام قوات سوريا الديمقراطية. وهنا وعلى الرغم من خطورة المحاولة، إلا أن بذور الاقتتال أو إحداث شرخ حقيقي غير موجودة أساساً.
المحاولة هذه كانت عن طريق بعض وجهاء العشائر وليسوا بشيوخها، حيث وخلال الظروف السياسية في المناطق التي توجد فيها العشائر، كان رؤساء العشائر مغيبين عن المشهد نتيجة قيام بعض الوجهاء المدعومين من قوى عديدة بتهميشهم، فتكون قرارات هذا الوجيه غير مرحب بها من قبل أبناء العشيرة. إضافة إلى ذلك، فإنه وخلال السنوات الماضية أصبح دور رئيس العشيرة ووجهائها رمزيًّا فقط، وهذا له إيجابيات وسلبيات.
الأهم من ذلك، هو كيف تتم مواجهة الحرب الخاصة، فكما درسها من خطّط لها بعناية، يجب أن يتم دراسة الرد بعناية أكثر من ذلك.