من الملاحظ أن التغيير الدراماتيكي في المشهدين السياسي والعسكري في سوريا أحدث تغييراً في المواقف الداخلية والإقليمية والدولية، وباتت العلاقات بين المتصارعين تترنح وفق مصالحها ومدى توسيع نفوذها، هذه التغييرات جاءت سريعة ومتباينة بعد بحث ترامب بسحب قواته من شمال وشرق سوريا قبل فترة وجيزة، البعض أكد على عودة الفوضى السياسية للمنطقة، والبعض الآخر قال بأنها صفقة بين أمريكا وتركيا، في حين غرد آخرون بأن واشنطن سلمت ملف سوريا لموسكو.
في سياق آخر هناك آراء أخرى متباينة منها أن انسحاب أمريكا يجبر الإيرانيين على الانسحاب؛ وهذا مطلب إسرائيلي، وبالمنحى نفسه؛ أكد بعض المراقبين بأن تركيا عقدت صفقات مع أمريكا كي تنهي الاستقرار الأمني في شمال وشرق سوريا كونها تعيش إدارة ذاتية، وتحارب القوى الإرهابية من خلال قوات سوريا الديمقراطية، بتغطية جوية من التحالف، أعاد هذا الانسحاب لتركيا أحلامها بالتوسع نحو الشمال السوري بدعوى الحفاظ على أمنها القومي.
ترك قرار الانسحاب ردود أفعال في الإدارة الأمريكية أيضاً؛ لأن السياسات لا تتغير أو تتجدد من خلال تغريدة، أو من خلال مكالمة هاتفية كما حدث بين ترامب وأردوغان، إنما السياسات الناجحة عمليات متينة بين الساسة للدولة الواحدة وتوفير بيانات وحقائق حتى يتم صنع قرار سياسي، من الواضح يحاول ترامب إعادة رسم سياسة جديدة بشأن سوريا وهذه من صلاحياته، والآن يُطرح الموضوع للجدال والنقاش مجدداً حتى يُتخذ القرار الصائب.
تيه السياسية التركية
لم تدم فرحة أنقرة كثيراً حين قرر ترامب الانسحاب من سوريا، لأن القوى الدولية تداركت جيداً الفوضى التي سوف تحدثها تركيا باجتياحها شمال وشرق سوريا، وقد مارست حرباً إعلامية ونفسية مع كل المكونات في هذه المنطقة، وأعدت العدة بالتدخل العسكري مباشرة، لم تندفع تركيا نحو هذا العمل لولا التقارب بينها وبين أمريكا بعد سنين من الغموض بينهما، هذه القفزة ترسم علامات استفهام كبرى، هل التقارب له مؤشرات على حدوث صفقات ضخمة أم هو مجرد سياسة تكتيكية تفرضها الوقائع على الأرض؟
أولى الانفراجات جاءت بعد الإعلان الأمريكي بالانسحاب المفاجئ من سوريا وإعطاء فرصة جديدة لتركيا في الشمال السوري والقضاء على قوات سوريا الديمقراطية، بعض المراقبين أكدوا بأن الملفات العالقة بين الطرفين لا تعطي الحرية الكاملة لتركيا بالتحرك والاستحواذ على الثقة الكاملة. لهذا؛ ما زال التوتر قائماً بين واشنطن وأنقرة ولا يمكن بناء علاقات صحيحة، وهذا ما يدفع أردوغان بالتنسيق مع موسكو كضرورة للمرحلة المقبلة، لكن المفاجئ لتركيا دخول فرنسا كبديل للتحالف بعقد علاقات مع قوات سوريا الديمقراطية، وهذا سوف يُجبر أردوغان بمراجعة حساباته وسياساته.
اللا استقرار السياسي لتركيا مع الدول العظمى والتي تشهد مداً وجزراً قد يُدخلها في صراع مع روسيا بشأن اجتياحها لسوريا، وقد لا يكون الصراع مع روسيا عسكرياً بقدر ما يكون اقتصادياً وبوتين وحده يعلم من أين تؤكل كتف أردوغان، من هذا المنطلق قالت روسيا بأنها تتوقع من الحكومة السورية أن تولي السيطرة على المناطق التي سوف تنسحب منها القوات الأمريكية، وأكدت الخارجية الروسية بأن من حق الحكومة السورية وحدها هذا العمل وفق القانون الدولي.
هذا الخلط في أوراق اللعبة أدخل تركيا في تيه سياسي مع كل المتنافسين على سوريا، وقد تدرك أنقره بأن أمريكا قد سحبت البساط من تحت كل سياساتها، وجعلتها تعيش في دوامة من أمرها ورسمت سياسات جديدة لها مع كل الأطراف، وقد خابت كل احتمالاتها الآن وبخاصة بعد أن أكدت بعض الأوساط بأن قوات سوريا الديمقراطية تسلم مناطق التماس مع درع الفرات في منبج لجيش النظام، وقد انتشرت هذه القوات في محيط منطقة منبج على خطوط التماس بين الجيش التركي والفصائل المرتزقة الموالية لها من جهة، وبين قوات مجلس منبج العسكري.
هذه الإخفاقات والانكسارات السياسية والعسكرية للدولة التركية قد لا تمر بسهولة عليها، منها أن التدهور الاقتصادي التركي سوف يزيد من الاحتجاجات الشعبية، وليس مستبعداً أن تعيش تركيا قلاقل سياسية داخلية؛ لأن أردوغان بات من الواضح أنه لا يجيد السياسة مع الوقائع، هذا التخبط التركي أكده خبراء أتراك بأن الشكوك تساورهم من قدرة الجيش التركي على تنفيذ عمليات ناجحة في العمق السوري، ولا الطيران التركي يستطيع التحليق على مستوى الطيران الأمريكي.
هل يكون 2019 عام الحسم؟
من المتوقع أن يحمل العام الجاري نهاية الصراع على سوريا؛ لأن المعطيات التي تركتها أمريكا بعد انسحابها -المفترض-سوف تفرز تطورات جديدة ونتائج ربما غير متوقعة لأغلب الأطراف، أولاً الفراغ الذي تركه أو الذي سيتركه الانسحاب الأمريكي لا بد من ملئ هذا الفراغ، وهذا سوف ينعكس على العلاقات الروسية التركية حول نقطتين، منع تركيا من تدخلها في شمال وشرق سوريا، والتفاهمات حول مصير إدلب ومستقبلها السياسي بشأن الفصائل المسلحة هناك.
كل ما جرى الاتفاق عليه بين أردوغان وترامب والذي أستغله أردوغان وعمل على حشد هذا الموقف لوقف الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية. لكن؛ خطوة قوات سوريا الديمقراطية كانت استباقية لكسر كل أحلام أردوغان، الذي كان تواقاً بالدخول في العمق السوري وهي ثلث مساحة سوريا، وفيها شعوب أساسية متعايشة معاً منذ آلاف السنين منهم الكرد، والعرب، والسريان، والآشور، والأرمن، هذه المساحة يعيش عليها 70 ألف مقاتل من كل المكونات وبنية إدارية واقتصادية وخدمية، بالإضافة إلى وجود 90% من النفط السوري وكذلك الغاز والقطن والحبوب والسدود الكبرى وطرق برية حيوية تجمعها مع العراق والمصالح الإيرانية.
هذه المساحة بما فيها وعليها مصدر صراع بين كل الفرقاء، وأولهم تركيا ومن ثم إيران التي لم تتوقف عن الحشد في شرق دير الزور فما زال مشروع “سوريا المفيدة” قائماً في ذاكرة الإيرانيين، هذا الموقع الجيوسياسي الحيوي ستكون له نتائج قد لا تُعجِب أردوغان وكل من يخطط للنيل من سوريا وشعبها.
الحوار مرة أخرى
بعد التفاهمات التي تمت بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية حول انتشار قواتها في أطراف منبج وما حولها وإبعاد شبح الحرب المفتعلة من قِبل الجيش التركي باجتياح شمال وشرق سوريا، هل تعود لغة الحوار السوري ـ السوري بين مجلس سوريا الديمقراطية والحكومة السورية وبناء خارطة طريق سياسية وأمنية وصياغة دستور جديد لكل السوريين؟
الكل في الداخل السوري متفق بأن الحوار هو البديل عن الحل العسكري، والوصول لصيغة وطنية تتناسب وتطلعات كل السوريين، والبيان الذي أصدرته قوات سوريا الديمقراطية هو نداء وطني حقيقي بأن الانتماء لأرض وشعب وحدود سوريا هي القواسم الوطنية التي يجتمع عليها كل السوريين، والانتماء وحده لا يفي بالغرض، بل تفعيل هذا الانتماء على الأرض وبين المكونات، وقد ترجمته قوات سوريا الديمقراطية عملياً بالدفاع عن المنطقة وتقديم القرابين في معارك تحرير الرقة ودير الزور وهجين.
تكمن عوائق الحوار في وجود القوات الإقليمية والدولية في سوريا، وهناك دعوة روسية لإيران بالخروج من سوريا (لا سبب لوجود القوات الإيرانية في سوريا بعد إعادة سيادتها). لهذا؛ صدر بيان من مؤتمر الحوار الوطني السوري يضمن تشكيل لجنة دستورية برعاية دولية وهذا الدستور سيكون ممراً لكل السوريين بالحوار الجاد وفق القرار الدولي 2254.
المقاومة خيار السوريين
أمام غطرسة أردوغان وعبثية نهجه وسياساته العدوانية تجاه مكونات شمال وشرق سوريا، تبقى المقاومة لصد هذا العدوان والدفاع عن وحدة الأرض السورية خيار قوات سوريا الديمقراطية، هذه السياسة التركية والتي تفتقر إلى أقل مستوى أخلاقي من خلال كل ممارساتها التي تبث الفوضى في هذه المنطقة، فالسلطة في تركيا وخلال عمر الأزمة السورية تحاول وتعمل في كل مرحلة على خلق مخطط تسعى من خلاله على استمرار هذه الأزمة من خلال الحرب والدمار وتصعيد الصراع بين السوريين.
أردوغان لاعب صغير أمام القوى الدولية التي تعمل بتقاسم النفوذ في المنطقة، فهي ـأي تركياـ ومن خلال بيانات وشعارات مستهلكة تحاول الجري مع الأزمة، فمن خلال شعارها (إبعاد الخطر من حدودها الجنوبية) وبداعي الحفاظ على أمن تركيا القومي احتلت عفرين، والآن تجيّش قواتها في مناطق منبج وغيرها، كل الغاية أن تفشل المشروع الديمقراطي، لكن قوات سوريا الديمقراطية وبخطوة ذكية أوقفت عدوانها، حين رفعت من وتيرة الحوار مع الحكومة السورية وأنهت الكثير من مبررات تركيا والعدول عن العدوان مؤقتاً.
رغم كل هذا تدرك الإدارة الديمقراطية بأن الحرب الإعلامية تشكل حيزاً كبيراً في معركتها مع تركيا، لما لها من تأثير نفسي على الأفراد، من هذا المنطلق اعتمدت المكونات في المنطقة ومنذ البداية على إمكاناتها حين أسست هيئات ثقافية واعلامية وعسكرية حاربت الإرهاب وما زالت تحارب، وليس لديها خيار غير المقاومة أمام غطرسة وعدوانية تركيا.
بهذه العزيمة وبروح المقاومة والدفاع الذاتي لحماية مكتسبات الإدارة والحفاظ على وحدة المكونات والأرض، وتبقى للوسائل السلمية تأثيراتها الإيجابية على إفشال مخططات أردوغان العدوانية، فالاحتجاجات السلمية والتظاهرات السلمية في الداخل والخارج خطوة ضرورية، بشرط أن تكون هذه التظاهرات تتمثل بروح وقيم المشروع الديمقراطي للإدارة الذاتية.
هذه الآليات السلمية شكل آخر للمقاومة في وجه وفضح كل أجندات الدولة التركية التي ترعى الإرهاب وتدعمه. لكنها؛ تعلن وكثقافة مكتسبة من تاريخها العدواني بأن الحرب والفوضى تطيل من عمرها، لكنها لا تدري بأن الشعوب لا تُقهر وإن المقاومة أقصر طريق للنصر.